القصور السلطانية في زنجبار (2)

“خاطرة”

بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي

مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

بعد أن انتهينا من الجولة التي أشرتُ إليها في الحلقة (1) من الموضوع الماثل، عُدت إلى القصر (متحف القصر)، برفقة الفريق الفني لمركز ذاكرة عُمان – ووقفنا أمام المدخل الرئيس له، والتقطنا صورة جماعية .. وفي ذلك الأثناء – وكما هي عادتي كلّما مررتُ أمام القصر – وجدتني وقد فقدتُ الإحساس بالمكان والزمان، بعد أن شرد ذهني إلى اللحظات الأولى لنكسة عام 1964م .. استحضرت، عندئذٍ، الأحداث التي أجبرت جلالة السلطان جمشيد بن عبدالله، ليس على ترك عرشه وكفى، لينأى بنفسه وأهله من مذبحةٍ مُحقّقة؛ وإنما، على ترك وطنه أيضًا، والخروج منه طريدًا ذليلًا منكرسًا.

استحضرت، بالتعاقب وفي ثوانٍ معدودة، لحظات وصول مبعوث رئيس مجلس الوزراء إلى القصر، ونقل إلى جلالته رسالة شفهية من رئيس الوزراء بضرورة ترك القصر فورًا، لأنه لم يعد مكانًا آمنًا على حياته؛  إلا أن جلالته امتنع عن الخروج، بكل شجاعة، قائلًا، بما في معناه: إنه لن يترك رعيَّته تلتهمهم الغوغائيّة مُنفردين؛ وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ، فالأكرم له أن يقاتل بجانب رعيّته، حتى النصر، أو يستشهد بين ظهرانيهم.  شعرت، وأنا أسمع هذه العبارة من السلطان جمشيد، في المقابلة التاريخية الحصرية التي شرفني بها في بيته في بريطانيا، في عام 2006م، وكأنه استحضر قول المتنبي: “فمن العار أن تموت جبانًا”.

كما استحضرت لحظات وصول المبعوث الثاني – بالرسالة نفسها – وهو السفير هلال بن محمد بن هلال البرواني، وإصرار جلالته على البقاء والقتال، دون الخروج من الوطن؛ إلا أن هذا المبعوث، تمكّن بدبلوماسيته في الكلام، وبحنكته السياسية من إقناع جلالته بالخروج، بعد أن أوضح له أن الخروج ليس لمصلحته فحسب، وإنما لمصلحةِ النِّظام والبلد والشعب في آنٍ واحد.

استحضرت أيضًا، توضيح جلالته لطريقة خروجه من زنجبار، حيث صرح قائلًا: “بعد الحادية عشرة من صباح يوم الأحد، الموافق 12 يناير 1964م، وصلَت القصر قوة شرطية معقولة، لتأمين وصوله، وأفراد أسرته، إلى الميناء البحري؛ فخرج من القصر مُتجهمًا، وقسمات وجهه تملؤها الوجوم والقلق،  مُتهيئًا لأسوأ الاحتمالات، حاملًا بندقيةً بيمينه، ومُخبّئًا بين طيّات ملابسه مُسدّسًا؛ وأبت العزةُ والحميةُ أن تسمح له بركوب سيارة الشرطة؛ وآثر، بدلًا من ذلك، الخروج مرفوع الهامّة، قائدًا سيارته بنفسه، وكأنّ الأوضاع تسيرُ وفق طبيعتها، فركبَت معه زوجته وأولاده؛ بينما ركب بقيّة أفراد الأسرة، وكذا الحاشية في سيارات الشرطة التي أحاطت بسيارة جلالة السُلطان، من الأمام، ومن الخلف.  هذه القوة الشرطية، لم يكن في مقدورها العودة إلى مركز شرطة ماليندي لتعزيز المقاومة الوطنية؛ إذ أن الغوغائيين من مُؤيّدي الغزاة، كانوا قد اقتربوا إليهم؛ وهو الأمر الذي دفعهم إلى ركوبِ السفينة بصحبة السلطان.

ترك جلالة السّلطان أفراد أسرته، يركبون السفينة، واضطر هو إلى العودة مُنفرِدًا إلى قصرِه – لسببٍ غير واضح – دونما حراسةٍ أمنية؛ ويُرجَّح أن تكون الحراسة نصحته بألاّ يفعل ذلك، إلاّ أنه أصرَّ على العودة إلى القصر.  أكد لي السيد سعود بن أحمد بن حماد، صحة هذه المعلومة، حيث شاهدها بأم عينه من شرفة بيته، الواقع على مقربة من الميناء البحري. 

وعندما ألقيتُ بنظري إلى بوابة القصر، استحضرت ما أكّده لي السُّلطان، بأن حراسة القصر، أدت له التحية العسكرية، حسب المعتاد، أثناء دخوله بسيارته؛ إلاّ أن الأمر لم يكن كذلك عند الخروج، حيث لم يُكلّفوا أنفسهم حتى بمُجرّد القيام من مقاعدهم؛ وهو الأمر الذي توجّس منه السّلطان خيفةً، وتوقَّع منهم الخيانة، حال ما إذا قرر العودة ثانية. 

وهذا ما استحضرته في تلك العجالة، بمناسبة وقوفي أمام باب القصر.  تابعونا في الحلقة التالية، عن زيارتنا لقصر المتوني.

زر الذهاب إلى الأعلى