ذهب الذين أحبهم

حمود بن سالم السيابي
تكاد تخلو “غَيْل الدَّكْ” من شبابها الذين تبعثروا في البحرين والدمام والخبر طوال خمسينيات وستينيات القرن الماضي لتبقى حرقة الآباء وصبر النخيل ونشيج السواقي.
وكان الشباب يعودون كزوّار ومعهم “الراديوهات” وساعات “الوست أند” و”البجالي” والصابون المعطر وسحاحير “الواتر بروف”.
وقبل أن تشبع بيوت الحارة من “شوفتهم” يتسربون كالماء بين الأصابع ليلحقوا بأقرب مركب مغادر.
والقليل من كان يعود وفي كفه حفنة ريالات لشراء “جلبة” في “السفالة” أو “أثر ماء” من “القلعي” أو “بلفاعي”.
والشيخ محمد بن سليمان بن شامس السيابي أحد الذين ركبوا البحر لتأكل الغربة زهرة عمره.
إلا إنه تدارك نفسه فعاد إلى الوطن بكفٍّ يقبض على جمر الغياب ، فتخلَّى عن الذين ذابوا هناك.
وساعة لاحتْ لناظريه جبال الوطن من غياهب الزرقة حتى حرق مراكبه ومزق تذاكر العودة.
وفي رحلة العودة كان يتحسَّس بين الفينة والفينة “النيبي” الذي يتحزم به ليطمئن على تحويشة العمر ، ولكيلا تتسرب في غفلة من نوم ، أو بطمع طامع كما في المرة السابقة الأمر الذي اضطره اللجوء للشرع الشريف لاسترداد ما “تسرقف”.
وكانت “بالنيبي” أغلى الصوغات التي خص بها والده هذه المرة ، إذ بشره باعتزامه بناء بيت يجمعه به وبعمَّتيه ، بعد أن تقادم العهد بالبيت القديم وتآكل ساسه وآلتْ جدرانه للسقوط.
وكان حلمه في المتناول فأرض والده في الغروب تكفي “للغيلة” و”الطفال”.
وفي نخيلها “العوِّانة” ما يغطي جذوع سطح ثلاث “صفيف” و”مبرزْ”.
اقتطع له والده حيِّزاً من أرض الغروب لتزهر أمانيه فيها وتورق فيبرُّ بالوعد ، وقد “أنْجَزَ حرٌّ ما وعَدْ”
وشهد العام التالي لاكتمال البيت مجيئ ابن الحارة وزميل الاغتراب الشيخ يحيى بن خلفان بن جميِّل السيابي ، فكانت فرصة ارتآها والده الشيخ سليمان بن شامس لأن يولم لاكتمال البناء ولعودة نجل الشيخ خلفان ولكي يتبارك البيت بزيارة الشيخ الرضي العلامة بن جميِّل.
كان البيت صغيراً كالقناعة التي تسكنه ، وطينيا كالمضغة التي تخلق منها ، وكالأشبار التي تسعف الرقدة الأخيرة.
ومع فجر النهضة العمانية ارتبط أبو سعود بعمل في معسكر المرتفعة فترك “غيل الدك” وبيت الغروب ليسكن حارة الشريجة بالسيب كونها الأقرب للمرتفعة إلى أن خرج للتقاعد فترك الشريجة إلى المعبيلة.
وقد ضجَّتْ هواتفُ و”جروبات” العائلة فجر هذا اليوم الحزين العاشر من سبتمبر ٢٠٢٣م. بالتحاق الشيخ محمد بن سليمان بن شامس السيابي بوالده وبأقرانه الذين اقتسم معهم مرارة الغربة وببيت الطين في الغروب.
وكنتُ في المشهد الباكي وأنا أتابع توديعا حزينا لقلب أبيض من البفتة وأنقى من النقاء.
ومَرَّ نعشه بجانب نخلة فسلها عند مدخل البيت فلامستْ سعفاتها النعش ، فيا وجع النخل حين يتيبَّس الغدير.
ويا قتامة المكان حين يأفل قمر المكان.
لقد جاء أبو سعود إلى زماننا كالنسيم البارد ورحل ومصحفه برائحة أصابعه التي تتابع الآيات.
وتكرَّسَ لحده في المعبيلة تحت رقم ٤٣١٣ وبأمنية أن يتضاعف رقمه ملايين الأضعاف لتثقل موازين عيشته الراضية.
طِبْتَ يا أبا سعود حيّا وطِبْتَ حيَّاً.
——————————
مسقط في العاشر من سبتمبر ٢٠٢٣م.





