في بيت النبي حيث الصبح بفرحة الثاني

عشر من ربيع الأول والليل بمخاض آمنة

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

تطلع شمس مكة من جبل أبي قبيس فيصلي الحرم ركعتي الإشراق ويكتسي شعب أبي طالب بردة الذهب.

ورغم تآكل جبال أبي قيس وقعيقعان وخندمة وجبل عمر وكل الشعاب الواقعة بين أخْشَبَيْ مكة ما زالت الشمس على العهد بها تطل من جهة أبي قُبَيْس.

وما زالت الدار التي شهدت مولد سيد الكونين والثقلين بموقعها هناك يتعاقبُ عليها القمران.

كل صبح في هذه الدار هو يوم الأثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وعلى الشمس أن تستأذن الدار لتلقي بردتها فتتكرر الشموس.

وكل ليلة هنا هي ليلة مخاض آمنة بنت وهب وعلى البيت أن يتأهب لديمة أقمار ستسكب فضتها.

ولقد مضى حين من الدهر مذ دخلنا دار النبي الأكرم فاقترح مازن تجديد ذكريات طفولة الأسفار بزيارة المكان فأسرجنا الشعاع الذي يغسل صحن الكعبة وحلَّقْنا باتجاه جبل الصفا فجبل خندمة لندخل الدوحة الهاشمية بعينين “إن قُلْنا اكْفُفَـا هَمَـتَا ، وبقلب إنْ قُلْنا اِسْـتَفِقْ يَهِــمِ”.

ورغم أن الدار ترفع لافتة تحمل اسم مكتبة مكة المكرمة وليست دار مولد النبي إلا أن لبوصلة الشوق اتجاهاتها التي تتجاوز التمويه ، وللعشاق حدسهم وخرائطهم ومساراتهم التي تقود للأحبة.

وحتى الأسئلة اللحوحة للوصول إلى هنا هي من قبيل :

“وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌ

وَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ”

فهنا مرعى جياد ومطايا الأرواح

“وإليها وَجيفُها والذميل”.

وبنفس قشعريرة الزيارة الأولى ندخل بيت النبي فيستقبلنا أبو عمر الشيخ أسعد الغامدي بصحن رطب من خلاص القصيم وقهوة سعودية وشربة من زمزم وعلى محياه بشارات فرحة مولد النبي وكأن النور الذي انبثق لحظة الولادة فملأ الدنيا هذا وقته.

وكانّ أصنام الكعبة تتساقط الآن.

ونار فارس المشتعلة تخْمدْ.

وأنَّ العد السريع لتحطُّم شرفات إيوان كسرى قد بلغ الشرفة الرابعة عشرة.

وكأن الحديث عن جفاف بحيرة ساوة يتناقله الناس الآن ومعه انتكاس أسرّة الملوك.

هنا على هذه الأرض التي ندخلها برؤوس أصابع أقدامنا المرتعشة تحققت بشارة عيسى بنبي من بعده اسمه أحمد.

وهنا ولد الطفل الذي التقى الأرض بيديه فنهض ليرفع كفيه للسماء.

وإلى هنا جاءت مكة لتكحل ناظريها برؤية محمد المحمود في الأرض والسماء.

نمشي في منطقة انعدام الجاذبية فنتخيل أراجيح مهد تتأرجح معه الأرض وفرحة شيبة الحمد يردد:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثِمال اليتامى عصمة للأرامل

يلـــوذُ به الهلّاك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمــةٍ وفواضلِ

من هنا حمل الهاشميون الطفل إلى أول بيت ببكة لتفرح به الكعبة فيطوفون به بل ليقفوا به لكي تطوف الكعبة عليه.

ورغم أن دار النبي هي اليوم مبنى لمكتبة مكة مذْ شعَّتْ فكرة استثمار موقع البيت ليكون دارا للكتب.

واستهلت الخطوة الأولى بشراء خزائن آثار الشيخ محمد الكردي في عشرينيات القرن الماضي لتكون النواة للمكتبة ، لتَكْبَر الفكرة لاحقا بفضل هِمَّة ابنة الشيخ عباس بن يوسف القطان وبدعم ملكي سخي سنة ١٣٧٠ هـ. فتتحول إلى مجمَّعٍ لمكتبات المكيين فتكون مرجعاً لأهل الحجاز يقرأون فيها أمسهم الزاهر وتنتقل ملكية المكتبة إلى الدولة بإشراف وزارة الإعلام ثم وزارة الحج.

إلا أن سجل المكان ما زال يتجاوز الجدران والمحتويات ليحضر في الذهن بيت النبي والطفل القرشي والراعي لغنم قومه في أجياد.

وما زالت السيدة آمنة بنت وهب تحضر في المكان ومعها لهفة حليمة السعدية لاحتضان الطفل ونقله إلى بادية آل سعد. وما زالت روح سيدة قريش خديجة بنت خويلد تسائل ورقة ابن نوفل عن أسفار الحنيفية.

وما يزال البيت يعبق بفاطمة البتول.

وما زالت الأرجاء تستذكر المتحنِّث في حراء وتستعيد المبعث النبوي وذلك المزمل والمدثر ليقوم فينذر.

والطائف بأرجاء البيت لا بد وأن تخنقه عبرات حصار قريش لشعب أبي طالب ويستعيد الأرضَّة التي تأكل وثيقة قريش.

ولا بد أن تتلألأ هنا سيرة الهجرة والفتح وحجة الوداع.

يأخذنا أبو عمر الغامدي بين جنبات المكان الذي عجّ بخزائن المكيين الذين أتوا بكتبهم لتصطف في أرفف البيت فحفظ المكان الكتب وأصحابها.

ويصرُّ أبو عمر أن البيت مكتبة فقط وليست بمزار.

ونصرُّ بأشواقنا أنه البيت بعد البيت.

وتطالعنا أرفف كتب الطابق الأول بأسماء مكية أمثال مكتبة الشيخ محمد حسن المشاط وفيها كتبه .

ونقرأ في أرفف أخرى لافتة باسم مكتبة الشيخ محمد ماجد الكردي وفيها خزائن آثاره وبجوارها مكتبة الشيخ حسين علي عرب وأخرى باسم مكتبة عبدالحميد قدس.

ونطالع على أرفف الطابق الثاني من بيت النبي مكتبة الشيخ محمد بن لادن حيث نقل الورثة آثار العائلة ومقتنياتها من الكتب إلى هنا وفي الجوار مكتبة الشيخ محمد أحمد شطا.

ويصر أبو عمر على أن الدار مجرد مكتبة فقط وذلك بإملاءات تكليفه الرسمي ليصرف الأذهان عن تأويل الدلالات الأخرى للمكان فيشير عن توفر آلاف النسخ النادرة للكتب ، فنصر على المكان الذي لا يشبهه مكان .

ويصرف الشيخ الغامدي الانتباه لآلاف المخطوطات ونصرف الانتباه لمداد النور الذي أزهر هنا فتجسَّد في كل هذا الإرث.

ويشير الشيخ أسعد الغامدي إلى عشرات الصحف المحفوظة هنا كجريدة القبلة وحراء وصوت الحجاز ومجلة المنهل ومجلة الحج إلى جانب الجهود التي بذلها سالم بن عبدالرحمن الجفري وورثة الشيخ محمد بن لادن في حوسبة كنوز المكتبة ووثائقها لخدمة البحث العلمي.

ونشير إلى المكان الذي استسقت منه الصحف مادتها.

ما زلنا في مرحلة انعدام الوزن وانعدام الجاذبية نهيم في بيت مولد النبي فنتخيل شعب أبي طالب أو شعب بني هاشم أو شعب علي وهو على حالته الطينية.

ونستعيد رغاء إبل عبد المطلب وريح الصبا التي تهبّ فتنتعش المراعي ويستفيق الشيح والقيصوم.

ونستعيد امساً جميلا أزهرَ هنا وعمراً ممرعاً عرّش هنا

إلا أن برودة المكيف تعيدنا لزمن لا تهب فيه ريح الصبا ، ورنين الهواتف يوقظنا من التحليق الجميل فنغادر البيت والأمس والنفس يتنازعها حب البقاء.

ونترك المكتبة والفضول يحفزنا على تقليب الصحف الأقرب للزمان الجميل.

خرجنا ونحن نترنم بأبيات من ميمية سيدنا الوالد سالم بن حمود السيابي التي تقترب من ثلاثمائة بيت :

أَهاجَكَ البرقُ منْ أكنافِ ذي سَلَمِ

يبْدو لِعَينكَ منه ومْضَ مُبْتَسِمِ

أم شاقكَ الرَّبْعُ إذْ غَنَّتْ مُطَوّقةٌ

تشْدو فَتُشْجي مُعَنَّى الَبانِ والعَلَمِ

يا حادي العيس تُزْجيها على عَجَلٍ

فسِرْ رويداً فإني مِنْكَ في أَلَمِ

ويا أُثيلات وادي المنحنى اِلْتَفِتي

إلى غرامي فقد أعْيَا الأسَى سَقَمِي

ويا ظبا القاع من أرجاء كاظمة

رفقاً بصبٍّ بُلي بالوجْد من قِدَمِ

ويا مَهَا الوَحْشِ هلْ لي في منازِلهمْ

بقية من هوى أشفي به لَممي

ويا مَرابِعَ آرامِ الغُويْرِ أرى

وجْدي يَهِيجُ ويغريني بُقُرْبِهِمِ

محمد واسمه عنوان مملكة

الإيمان والأنبيا والرسل كلهِمِ

أوفى البَرِيَّةِ في الأحْوالِ أجْمَعها

وأصدقَ الخَلقِْ في (لا) مِنْه أو (نعم)

قلْ فيه ما شِئْتَ من مدْحٍ توحِّده

به وصِفْهُ بمَهْمَا شِئْتَ من عِظَمِ

ولا تقلْ فيه ربٌّ أو يماثله

وما عداه فقلْ ما شِئْتَ واحْتَشِمِ

الله أكبر ما المسك الذَّكي حكى

أرواح تُرْبَتِهِ في العرف والشَّممِ

قد أخْلَصَتْهُ مجاري الدَّهْرِ مبتدأً

وأكْبَرَتْهُ الليالي ضِمَن مُخْتَتَمِ

————-

مكة المكرمة في السابع من سبتمبر ٢٠٢٢م.

زر الذهاب إلى الأعلى