في المصنعة حيث “الأحبّة أخذوا المكان وهاجروا”

حمود بن سالم السيابي
“سأغمض عيني علي الوجوه السُّمْر التي تحبّ الوطن. على عنفوان البنادق وهي تزغرد في أعراس انتصاراته. على اللون الخاكي في البدلة المعفّرة بزعفران الأرض وريحان الشهداء. على لون النهار المودِّع لمجيئ نهار آخر. على نخلة خضراء في المصنعة زُرِعَتْ بجانب المئذنة فسافرتا معاً في الأفق. سأغمض عيني لأشتاقكم”. تدوينة ذرفتها ذات حزن وأنا أتزلزل أمام صورة لأعز الرجال وهو يتحامل على وجعه فيحتضن بحاجبيه وطنا بحجم عمان. ونهضة عملاقة كان هو صوتها المنادي. ومسيرة بطول نصف قرن كان هو حاديها. هأنذا في المصنعة وفي ذات الدرب الذي مخرته السيارة السماوية ذات أصيل. وأجدني بعد أربع سنوات أقاسم غاف الشوارع الوجع وأشاطر الظل تلويحة الوداع لمشوار لن يتكرر.جميلة هي المصنعة كما تتلألأ من مرايا السيارة ولذلك استحقت بأن تكون مسك ختام قصيدة قابوس الخالد. ومهيبة هذه الولاية بحصنها الذي يحرس البحر. وبأبراجها الراعفة بلون الخاكي المتكرر في اللباس العسكري. وبقواعدها البحرية التي تعيد للبحرية العمانية عنفوان اليعاربة وأمجاد آل سعيد. لأجل ذلك ارْتقَتْ المصنعة كآخر صورة عسكرية في ألبوم أعلى رتبة في القوات المسلحة وهو يعطي الإذن الأخير ببدء الاحتفال بالعيد الوطني التاسع والأربعين المجيد. جئتُ إلى المصنعة دونما نيَّة لنبش جروح آخر المشاوير. جئت لواجب أمْلَتْهُ المواساة لعزيز له في القلب مساحة كبيرة فأردّ بعضا من جَمِيلِهِ الذي يغمرني ، وبعضا من أرصدته المكتنزة بالأخوَّة والنبل. جئتُ معزِّيا له في وفاة شقيقته الكبرى ماجدة آل نعمان التي لم تفارق أصابعها المِسبحة ولا طوتْ سجادتها من الصلاة إلى الصلاة. كان وَقْعُ الفقد موجعاً على قلب شيخنا العزيز سعيد الأثيل النعماني فالراحلة أكثر من مجرد شقيقة. كانت أمّه التي ربَّتْ ورعتْ وتعهدتْ ووجهت. كان العزاء في مجلس “الدَّاوِيَّة” بالمصنعة ، والدَّاوِيَّة في دارجتنا المحلية تعني خلو المكان. إلا أن المصنعيين عمروا الداوية ليملأوا المعنى حركة وحيوية وحياة. كانت البلدة هناك في الدَّاوِيَّة تستذكر أم عبدالله العابدة الراهبة التي رَحَلتْ بُعَيْد آخر صلاة وهي في غفوتها تطالع السماء. أخرج مع الخارجين من مجلس الدَّاويَّة إلى المسجد المجاور ، ومنه أزحف أمتارا صوب الشرق وصحبة الشيخ الدكتور محمد بن ناصر المنذري والشيخ الدكتور خلفان المنذري والشاعر والباحث الكبير الشيخ سعيد الأثيل النعماني والمشايخ إخوانهم وأنجالهم فندخل مجلس الشيخ سالم بن خميس السعدي الذي استقبلنا بتاريخ آبائه في المكان وبألقهم في الزمان. وتأخذنا صورة تتصدر مجلسه وتجمع المشايخ خميس ومحمد وعلي أبناء مسعود بن زامط السعدي فأتذكر أننا في شهر أكتوبر ، وأن “حرب كبتن” التي دارت رحاها بالقرب من هنا كانت في أكتوبر. أطالع الوجه العروبي للشيخ سالم بن خميس فأقاربها بأبيه وعمَّيْه. يبدو أن الرجال يمدون الأزمنة المفعمة بالنخوة ، فالشيخ سالم رجل عِزَبٍ وإبل وخيام عربية لا تنطفئ قدورها ولا تبرد دلال قهوتها. والشيئ بالشيئ يذكر فإلى هذه البيئة الشامخة جاء الشيخ الرضي ناصر بن راشد المنذري فكان القاضي والأب والمصلح والملجأ والملاذ. كانت تضحيات الشيخ ناصر المنذري تنوء بحملها الجبال ، وصبره أكبر من أن يجارى فأتعب بمآثره من جاءوا بعده. والشيخ سالم بن خميس السعدي وهو يستضيف أنجال الشيخ ناصر المنذري وأصهاره إنما يستذكر فيهم زمن الشيخ ناصر المنذري وروحه وفروسيته. أخرج من أحداثيات “حرب كبتن” إلى حضور المصنعة الباذخ في الأزمنة العمانية فأستدعي حارس الضاد ومؤسس علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي إبن “ثرمد المصنعة”. وأتفيَّأ ظلَّ “قرط المصنعة” لأستذكر قاموس الشريعة لشيخنا العلامة جميل بن خميس السعدي الذي توزع على تسعين مجلدا. وأنظر بالكثير من الإكبار والإجلال للعَلم الفذ والباحث الكبير الشيخ الأستاذ فهد بن علي السعدي الذي يستلهم همم من سبقوه فيسبكها عشقا للسويق والمصنعة في موسوعة من تسع مجلدات غطَّتْ الجوانب السياسية والعلمية للحاضرتين العمانيتن إلى جانب العديد من العناوين العمانية التي حققها. والمصنعة هي نبع الكفاءات منذ القِدَم وما زالت تغذي النهضة العمانية بالمبدعين في شتى المجالات. وقد ارْتَبطْتُ بزملاء وزميلات في الحقل الإعلامي وهم غرس هذه البلاد ، وما زالوا يمدون ظلهم الأخضر في نواحي الحياة. أعرف مذيعين وصحفيين وشعراء وروائيين وكتاب سيناريو ومخرجين ومطربين تتكرر ولاية المصنعة في مكان ولادتهم فيحملونها في جوازات السفر والبطاقات الشخصية ، وما زال العديد منهم على رأس العمل ويواصلون العطاء في النهضة المتجدة التي يقودها مولانا الهيثم المعظم حفظه الله ورعاه. وأنا أغادر المصنعة أتوقف عند نافورة دوَّارها أستعيد من أدمع الماء ذلك الرمح الذي انتصب في ساحة العيد ليغالب دموعه فيغمض عينيه على آخر المشاهد. على النخيل التي خرجت من موسمها لتعطي في قابل المواسم. على الرجال الذي التحموا ببنادقهم ليخطُّوا عهد الثباتعلى المآذن التي انزرعت في زمنه كما لم تنزرع من قبل. على لون النهار المودِّع لمجيئ نهار آخر. عدتُ لأردد مع محمود درويش”الأحبة هاجرواأخذوا المكان وهاجرواأخذوا الزمان وهاجروأخذوا روائحهم عن الفخار والكلأ الشحيح, وهاجروا”.





