بوبطين وصراعه الفكري

د. يوسف الشريف **

هي مناسبةٌ أكثر من قيّمة أن تسنَح لي الفرصة للكتابة في صَحيفَة الرؤية العمانية العَريقَة ذات الطابع المُتَعَدِد والمُعتَدِل، ورُبَمَا يَكُون أول لقاء لي مَعَكُم في فترة لا تُحمّد عُقباها في خِضَم زخمٍ سِياسي واسعٍ في منطقة الشرق الأوسط وأحداث غزة حفظها الله وساكنيها وقاطنيها من كل شرٍ وسوء.

لذلك وجَدتُ نفسي وأنا البعيد عن الشأن السياسي “بمزاجي”، أن أُدَغدِغَ مشاعر الفكر وأُناقِشَه فيما يجب أن يُطرَح على القُراء الكِرام في هذا الوقت تحديدًا، وما وجدتُ أنسب من أن أُناقِشَ صراع الفكر الذي ينتاب الكثيرين كما هو ينتابني، وهو أين أنا من كل هذه الأحداث؟

نَحنُ نعيش آلام الآخرين، ونُطالِعَ نجاحات الغير، نتألم لهؤلاء الأُوَل، ولكن ما هو أثر التالين علينا، وأقصُد هنا “الناجحين”؟ لماذا تؤثر الآلام على نفسيتنا وعقولنا وردود أفعالنا؟! نعيش المشكلة حقًا وكأنها فوق رؤوسنا، هل ذلك بداعي التآخي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”.

أم إن ذلك مجرد عاطفة؟ وما أثر هذه العاطفة على ردود الأفعال الدولية؟ أم إن هذا الفعل مرده على حكوماتنا وقياداتنا التي تعي حقًا حجم المسؤولية المُلقاة على عاتِقُها وتَبِعاتِها؟

نرى أحيانًا كثيرةً مُظاهرات هنا وهناك، تكسير لمحلاتٍ ودعوات للمقاطعة، وننسى للأسف أن هذه الشركات التي تُكَسّر أو تُقاطَع، ما هي إلا ملكًا لأحد مواطني بلدنا، هذا الشخص الذي رأى في يومٍ من الأيام تهافُتنا على هذا المُنتَج أو ذاك، واستيراده من بلده الأم أو حتى السفر إليه للتمتع به هناك، فقرر هذا المواطن الطَمُوح أن يَصرِف من ماله الخاص ليجلب هذا المُنتَج أو هاتيك العلامة التُجارية “الفرنشايز”، ليوفر علينا عناء السفر إليه أو جلبه، وليُحَقِق أرباحًا بعمله هذا، فما وجدنا أنفُسنا إلا إنه عند كل صراعٍ عربي أو إسلامي، نُقَرِر المُقَاطَعَة، ولكن مُقاطَعَة ماذا تحديدًا؟ أُجيبَكُم باستغرابي بأن مُقاطعاتِنا دائمًا مع الطعام والشراب، فأغرب ما أستغرب له أن شعوبنا تظل “أبوبطين”، يعني لا تفكر في أن تُقاطِع شيئًا إلا مُقاطعتِها للطعام؛ سواء المقاهي العالمية المشهورة، أو الوجبات السريعة ذات السُعرات العالية والتي عودوا أولادهم عليها، وخيرًا يفعلون حقيقةً من وجهة نظري، ليس لأن يُعاقِبوا هذه الشركات العالمية، ولكن ليَكُف أولادِنا عن هذه المأكولات والمشروبات التي طالما تغنى الأطباء بضررها ولا حياة لمن تُنادي، وغدًا سنقف صفوفًا طويلةً بعدما تقف الحرب، وتعود حليمة لعادتها القديمة، وهذا ديدن النَّاس، وليس بالأمر المُستجّد.

وسؤالي هنا أين نحن من مُقاطَعة سياراتهم مثلًا؟

فكر معي قليلًا سترى نفسك أنك لن تستطيع أن تُقاطِع هذه السلع الرئيسة، إما لأنك اقتنيتها بالفعل، وبالتالي لا تُريد أن تخسّر قيمتها، أو لأنها ذات جودة أعلى من مثيلاتها مقارنةً بالمنتجات الأخرى، أو لأنها باتت يديك وذراعيك التي تعمل بها وتتحرك من خلالها، كوسائل التواصل الاجتماعي المعروفة مَرجِعُها لمن، لماذا لا نُقاطِع تطبيق خرائط جوجل الذي بات يوصلنا من بيوتنا إلى أي بقعة في العالم، ما رأيكم في ذلك؟

صراعٌ عميقٌ في ذهن المواطن العربي، كيف يُحَقِق المُعادَلة؟ وأنا هنا أتكلم عن الأشخاص العدول، لا هؤلاء الذين مع الخيل يا شقرا، المقلّدين أو الذين يُفّكِرون بربع عقلٍ، واسمحوا لي أن أُشّخِص هذه الحالة، لأن الكاتب يجب أن يكون كالطبيب أو الأخصائي النفسي لمجتمعه، يُحّلِل ويَحِل المُشكِلة، لا أن يُفاقِمُها بالتَصفيق لها ولأصحابِها خشية ردود أفعال الجماهير.

أتمنى أن تكون قد وصلت الفكرة، وفي مقالي القادم سوف أُخبِركُم كيف لنا أن نعيش لحظات نجاح غيرنا ونستفيد منها.

** محامٍ وإعلامي

زر الذهاب إلى الأعلى