غزة… وسردية العالم المتحضر

بدر الشيدي

منذ انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على يد المقاومة الفلسطينية ممثلة بحماس، التي لن أضعها بين قوسين. والعالم يعيش حالة من الغرائبية واللامنطق واللامعقول. يبدو ذلك جلياً ونحن نشاهد آلة الحرب الجهنمية التي تطلقها إسرائيل بكل وحشية وصلف وعنجهية، متجاوزة كل شيء، مستخدمة في ذلك استراتيجية تقوم على الكذب والخداع وتمثيل دور الضحية، بالإضافة إلى قوة تدميرية وتمادٍ في القتل وانتهاك حقوق الإنسان، مستجدية عطف العالم، عندما وصف نتنياهو بأنها (حرب العالم المتحضر) و(القوى التقدمية والإنسانية) ضد قوى الشر التي تهدف إلى إحباط جهود السلام في الشرق الأوسط. فتداعى العالم المتحضر والمتحضرون إلى ذلك النداء معبرين عن سيل من التعاطف والتأييد اللامعقول والوقوف مع الآلة الصهيونية البغيضة، متسابقين في تقديم الدعم والسلاح، كل تلك الأفعال وذلك التأييد الأعمى من أين يأتي؟
لا يتطلب الفهم جهدا كبيرا، فذلك لم يأتِ من فراغ، أو لم يكن محض صدفة، فالعالم المتحضر بالأساس تأسس على سردية كبرى قوامها وظاهرها التقدم والتحضر والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، سردية كبرى تحمل في طياتها افتراضات مسبقة، ولا تسمح للسرديات الصغرى أو السرديات المضادة، حسب تعبير معن الطائي بالتعددية والحرية والديمقراطية، أو بالاختلاف إلا في سياقها، فهي تنكر أي نوع من الاختلاف معها، بل تقاوم أي رأي مخالف، أو جماعة لا تتبنى سرديتها وآراءها وأطروحاتها وأيديولوجيتها. هذه السردية التي يمثلها الغرب بكل تجلياته، يتجه إلى ما هو أعمق من الاختلاف، إلى كل شيء بعيد عن المنطق والأخلاق والقانون والأديان، سردية تقوم على تحطيم الثوابت الأخلاقية والإنسانية، لا يعنيها إلا إنتاج السلع وتنمية رأس المال وتراكم الثروات، مستغلة في ذلك الموارد الطبيعية والبشرية، مدعومة بآلة قتل جهنمية لا سابق لها وترسانة من الأسلحة الفتاكة وآلة إعلامية تقلب الحقائق وتبث الكذب والتضليل.
إن «طوفان الأقصى» فضح تلك السردية التي فقدت كل شيء معقول ومنطقي، فقد بلغت مبلغها في الوحشية، لا تقيم أي وزن للإنسان، كل شيء مباح، حياة الإنسان رخيصة غير ذات جدوى ولا معنى لوجوده، القتل والتدمير وانتهاك حقوق الإنسان والتمييز العنصري وإشاعة الفوضى والرعب، هي ما تميز هذه السردية. لا حقائق ولا معتقدات، عالم فقد توازنه، كل شيء فيه تجاوز الحدود والخطوط الحمر، وسقطت فيه كل المحرمات والمقدسات، كل شيء عصفت به وحشية الدولة الصهيونية الإرهابية ومعها العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
فلا غرابة في أن يتبنى العالم المتحضر السردية الصهيونية ويتمادى معها، فلا استغراب إذن أن يتقاطر قادة الغرب الديمقراطي المتحضر إلى إسرائيل معبرين عن دعمهم ووقوفهم المخزي مع هذا العمل الإرهابي البربري الوحشي، مدعومين بقوة هائلة وتكنولوجيا جهنمية لا حدود لتوحشها، ولا غرابة أن يتباكوا ويذرفوا دموعهم على ما يعتقدونه، وما يفهمونه، بأنهم ينصرون المظلوم والمعتدى عليه.

لا غرابة في أن يتراجع منظمو معرض فرانكفورت للكتاب عن منح جائزة LiBeraturpreis) ) للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي عن روايتها «تفاصيل ثانوية» وإلغاء الفعالية التي تستضيفها بدعوى «أن الحرب بدأتها حماس، ويعاني منها ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين». وأن يصرح منظمو المعرض بأنهم ارتأوا إتاحة مساحة «للأصوات الإسرائيلية واليهودية» متجاهلين أصوات الضحايا الفلسطينيين.
ولا استغراب في كمية الكذب والخداع الذي ظهر في وسائل الإعلام ويتم تبنيه من أعلى مسؤولي الغرب المتحضر، ولا غرابة في أن يطلب من الضحية أن تدين نفسها. ولا غرابة في إسكات أصوات كل من يناصر الحقوق الفلسطينية المشروعة، أن تمنع فرنسا مظاهرة للفلسطينيين، وأن تمنع المدارس في برلين ارتداء الكوفية الفلسطينية، لا غرابة في أن تقترح وزيرة الداخلية البريطانية أن يصاغ قانون بأن التلويح بالعلم الفلسطيني يعد تهمة يعاقب عليها القانون. ولا غرابة في أن يطلب من الزعماء العرب إدانة حماس ووصمها بالإرهاب ولا يحق لهم أن يتعاطفوا مع الضحية، لا غرابة في أن يسلح الغرب إسرائيل بالأسلحة الفتاكة هكذا علانية ولا يحق للعرب والمسلمين، بل يجرموا من يناصر الفلسطينيين من أبناء جلدتهم وذويهم. لا غرابة في أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يجيب عن سؤال ماذا تفعل القوات الأمريكية في البحر الأحمر وجزيرة العرب وباب المندب وعن ردود العرب قال «هذا ليس من شأنهم فنحن نفعل ما نريد». مما حدا بإحدى الصحافيات أن تقول» يا الهي هل هذه تصرفات رئيس دولة». ليس غريبا أن تقصف إسرائيل المستشفيات والمساجد والمدارس والكنائس وتهدم المنازل على رؤوس ساكنيها.
لا غرابة في كل ذلك. فالعالم المتحضر تهيمن عليه العدمية التي حذر منها فردريك نيتشه، وتتجلى الآن بكل قوتها وعنفوانها وتبدو سماتها ظاهرة لا تحتاج إلى تفكير. طوفان يمر به هذا العالم متجاوزاً كل القيم والمبادئ والأخلاق والتشكيك في كل المعتقدات والقيم والأخلاق، لا معنى لوجود الإنسان فيه، بل لا معنى لوجود لأي حقيقة أو لأي قيمة أساسية. فهذه العدمية خلقت جيلا وصفه فردريك نيتشه وحذر منه بأنه جيل من أفراد يولدون في المستقبل، طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات. طيعين للتكنولوجيا وآلتها الجهنمية التي وصفها بالقوة التي ستخرج عن سيطرة الإنسان.
فالعالم الغربي أو الحضارة الغربية بكل تجلياتها، ما هي إلا تجسيد للعدمية والرأسمالية المتوحشة التي بشر بها كارل ماركس، ويبدو أنها دخلت في أتون الاغتراب التي وصفها ماركس أيضاً، وهي الحالة التي يصل إليها النظام الرأسمالي والتي ستهيمن على الحياة الاجتماعية والثقافية متخلياً عن المبادئ والمثل الإنسانية والأخلاقية وستسيطر عليه النزعة المادية وقيم السوق، لا غرابة في شيء فهذه أفعال العالم المتحضر جداً.

زر الذهاب إلى الأعلى