نحو قانون لتنظيم أنشطة القبائل ‏

على بن راشد المطاعني
تنظيم أنشطة القبائل في سلطنة عمان أصبح ضرورة مُلحَّة لا يمكن تأجيلها؛ استمرارًا لنهج ترسيخ دولة المؤسسات والقانون، وإضفاءً للسلم والأمن الاجتماعيَّين في ربوع الوطن، وفق الأسس والآليات المُعَدَّة لتأطير أنشطتها الظاهرة والمُبطَّنة؛ لتكون الأمور أكثر وضوحًا للجميع، وحتى لا يتم تجاوزها بحُجَّة عدم وجود تنظيم ‏بإقامة تجمُّعات أو ملتقيات أو اجتماعات لقبائل عابرة للحدود في الوطن؛ للاستعراضات والوجاهة وغيرهما من مآرب أخرى.

وقد رأينا النتائج الوخيمة لما حدث ويحدث في دول عربية شقيقة؛ عندما غضَّت الطرف عن خطر القبيلة عندما كان في المهد صبيًّا، ومع مرور السنوات العجاف كبر وأضحى ماردًا يعيث في الأرض فسادًا وإفسادًا.

فاليوم، الحكومة تُنظِّم مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات المهنية والتطوعية والخيرية وغيرها، في كل أنشطتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وفق القانون والموافقات المسبقة من وزارة التنمية الاجتماعية، وتُراقِب الأنشطة وتُدقِّق في أعمالها؛ فالقبائل – باعتبار أنها أشبه بالجمعيات الأهلية – يجب أن تخضع لأنظمة تحكم عملها وأنشطتها، وأن تحصل على الموافقات لإقامة أي نشاط أو اجتماع قبلي ترغب في عقده، أو اتصالات مع قبائل ممتدة أو مشابهة في الدول الشقيقة، بدلًا من العشوائية التي نراها اليوم في هذا الجانب؛ فالتنظيم نراه ضروريًّا من الآن فصاعدًا، وألا نترك الحبل على الغارب هكذا، وما يُمثِّله ذلك من خطورة إزاء تنامي المد القبلي الجارف، وتوسُّعه وتشعُّبه، وعبر ممارساته التي يتم تجاوز النظام فيها؛ فتقييدها بحبال القوانين والردع والعقوبات هو الذي يجب أن يكون.

وهو الأمر الذي يتطلَّب من أجهزة الدولة، وخاصةً وزارة الداخلية، أن تشرع في تنظيم أنشطة وفعاليات القبائل وفق أنظمة واضحة وتراخيص لأنشطتها؛ فالوقاية – كما يقال – خير من العلاج، ولكي يعرف الجميع الحدود التي يتحرَّك في إطارها، ومتى وكيف تكون تحرُّكاته وفقَ النظام والقانون.

لا شكَّ أننا جميعًا أبناء قبائل عربية، وكانت ولاءاتنا للقبيلة في أزمنةٍ لم تكن الدول فيها كما هي اليوم، ولم تكن هناك حكومات وأنظمة وقوانين ودول مؤسسات إلى غير ذلك. أما اليوم فالقبلية انتهى دورها، وأصبح الوطن هو القبيلة؛ ينخرط الجميع تحت لوائه، وهو الملاذ والحاضن والأب والأم الذي نأوي إليه لنستمدَّ منه الدفء والحنان والحماية. ولأنه عادل وحكيم وأمين، فقد ساوى بين كل أبنائه باختلاف أجناسهم ومشاربهم تحت مظلَّته الواسعة المُسمَّاة بـ(القانون)، وتحتها لا قبلية، لا جهوية، لا مناطقية، لا عنصرية، لا فئوية؛ الجميع متساوون كأسنان المشط.

لذا فإن أحكام وتنظيم ممارسة القبائل لأنشطتها، يجب أن ينطلق من هذه الأسس المضيئة، وحتى لا نعود إلى المربع الأول وإلى سنوات ما قبل النهضة المباركة، وقد عانت وقتها البلاد من الويلات والصراعات القبلية، وها نحن الآن نراها تحاول النهوض من المدافن القديمة، من خلال صور تثير توجُّسات غريبة، وتلوح بأمور غير مُستحبَّة؛ فالاجتماعات ودعوات بعض القبائل لإقامة تجمعات في البلاد، والاتصالات التي تجري هنا وهناك تحت هذا النسق، تُبشِّر بما لا تُحمَد عقباه.

على ذلك ولكل ذلك، نَحُثُّ والدنا (القانون) على الحضور بأسرع وقت ممكن، وأن يرسل معاونيه من الأبناء والأحفاد البررة إلى مكاتب الولاة في كل محافظة وولاية، في إطار نظام المحافظات الآن؛ ليضع الأمور في نصابها الصحيح؛ وذلك باشتراط التراخيص المسبقة لأي تجمُّعات أو ملتقى أو نشاط جماعي قبلي، واستبانة ماهيته وأهدافه، إلى غير ذلك من محددات وضوابط؛ فكما يقال (معظم النار من مُستصغَر الشرر)؛ فلا يمكن أن ننتظر أن تستفحل هذه الظواهر والممارسات إلى أن تكبر وتُشكِّل مشكلة أو معضلة أو كارثة تُؤرِّقنا، وتنسف كل ما تمَّ بناؤه طوال أكثر من 50 عامًا من الانسجام والانتماء للوطن، وقد ترسَّخ مفهوم الوطن الأب بشكل أكبر مع الدور المتميز الذي لعبه الإعلام العماني في تعزيز المفاهيم الوطنية.

فاليوم، نحن أمام مفترق طرق؛ إما تنظيم عمل القبائل عبر القانون ليُنظِّم أنشطتها وأعمالها، مثل قانون الجمعيات الأهلية الاجتماعية، وإما أن نغُضَّ الطرف لنجد أنفسنا نهبًا للنزاعات القبلية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم بـ(المُنتِنة)، التي ما برحت تُغذِّيها الآلة الإعلامية الضخمة والضالَّة والمُضلَّة لوسائل التواصل الاجتماعي.

ومن زاوية أخرى، على الحكومة التسريع بإكمال الأنظمة الإلكترونية والإدارية، وعدم ربط المعاملات المدنية بتوقيع الشيوخ ‏والأعيان، إضافةً إلى غيرها من الخطوات التي يجب أن تتواكب مع التطورات المستقبلية لبناء هذا الوطن وفق أحدث الأنظمة الإدارية، وليس على شريعة القبيلة التي – على ما يبدو – تدفعنا دفعًا للوراء يومًا بعد آخر، عبر ممارسات لا تتماشى مع روح العصر.

فَليَكُن واضحًا أنه ومن اليوم فصاعدًا لا تكريس للقبيلة على حساب الوطن، ولا ملتقيات أو اجتماعات إلا بترخيص مسبق. ولعل الحكومة والأجهزة المختصة تتابع الكثير من الممارسات والأعمال التي تتنافى مع التوجُّهات وتتعارض مع الأنظمة، والكثير منها رأيناه في انتخابات مجالس الشورى والبلدية، وما ظهر فيهما من ولاءات مَقِيتة تُضعِف تجارب المشاركة الوطنية التي وُلِدت لتتطوَّر لا لتتقهقر.

بالطبع، تظل القبيلة مكونًا أساسيًّا متوارثًا في المجتمع العماني، والمحافظة عليها في البناء الاجتماعي أمر لا غبار عليه، بل يُعتَدُّ بها في بعض الأمور التي تتطلَّب ذلك، وفي حدود معينة، وهي: لـ(تتعارفوا)، لا أكثر ولا أقل.

نأمل من أجهزة الدولة المعنيَّة الإسراع بتنظيم أعمال القبائل وفق أنظمة وقوانين، كغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وبعد ظهور ممارسات لا تتوافق مع ما نتطلَّع إليه، كما أشرنا؛ فالوطن أكبر من القبيلة والقبليَّة، وسيظل كذلك بحول الله وقوته، وعلينا في مطلق الأحوال الاحتكام إلى الآية 13 من سورة الحجرات، باعتبارها الفيصل ونهاية لكل جدل وبوح عقيم:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ ‌شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)..
صدق الله العظيم

زر الذهاب إلى الأعلى