لقاء صحفي مع الفنان التشكيلي العُماني سيف العامري الذي جعل الخشب ينطق واللون يتأمل

مسقط الواحة
حواره سيلينا السعيد
“كل فنان هو في الأصل ناسكٌ يبحث عن ذاته بين الخطوط والألوان” – هكذا يمكن تلخيص مسيرة الفنان التشكيلي العُماني سيف العامري، الذي اختار فن الحفر والطباعة اليدوية ليكون صوته البصري، ولغته التي تنقل الحكايات المخفية في ذاكرة المكان والإنسان.
حين تدخل مرسمه الفني، تشعر وكأنك انتقلت إلى مساحة زمنية بين الماضي والمستقبل، بين الشروق و الغروب
هنا حيث تتناثر ألواح الحفر، والمكابس، وقطع الخشب و الحبر و كذلك قطع الفحم ، التي نُقشت عليها طبقات من التجربة والتأمل. في حديثه عن الفن، لا يتحدث العامري عن التقنية بقدر ما يتحدث عن الإحساس الذي يحركه، وعن لحظة الصمت التي تسبق ميلاد كل لوحة.
من الأبيض والأسود إلى حوار الألوان
في بداياته، كانت أعمال العامري تقتصر على الأبيض والأسود، وكأنها محاولة لفهم الضوء بعمقه، بعيدًا عن التشويش اللوني. يقول عن تلك المرحلة:
“اللون قد يكون إغراءً للمشاهد، أما الأبيض والأسود فهما مواجهة مباشرة مع الشكل والظل، وكأنك تعيد اكتشاف العالم من الصفر.”
لكن مع تطور تجربته، بدأت الألوان تتسلل إلى أعماله، ليس بوصفها زينة بصرية، وإنما كطبقات شعورية تضيف بُعدًا فلسفيًا لكل عمل. الأحمر عنده ليس مجرد لون، بل هو الحنين والبحث عن الجذور، أما الأزرق، فهو التأمل والصفاء الروحي، فيما يعكس الذهبي أثر الزمن على ذاكرة المكان.
فن الطباعة: حوار بين الخشب والضوء
فن الحفر والطباعة اليدوية ليس مجرد تقنية، بل هو لغة لها إيقاعها الخاص. يصف العامري هذه العملية وكأنها حوار بينه وبين المادة، حيث تبدأ كل لوحة بسطحٍ خشبي خام، يتحول تدريجيًا إلى نسيج بصري يحكي قصة.
“أنا لا أنحت الخشب، بل أستمع إليه”, هكذا يقول وهو يمرر يده على قطعة محفورة، قبل أن يغمرها بالحبر، ثم يضغطها برفق ليكشف عن الصورة المطبوعة الأولى.
هذه العلاقة بين الفنان والخامة تشبه الطقوس الروحية؛ هناك صبر، وهناك انتظار، وهناك لحظة الكشف التي تشبه الإلهام الصوفي.
عُمان كما لم تُرَ من قبل
رغم تجريد أعماله، إلا أن عُمان تتجلى في كل تفصيلة يبدعها، سواء في:
• النوافذ والأبواب الخشبية التي تحمل بصمة الزمن.
• المراكب التي تمخر عباب البحر، وكأنها تبحر في ذاكرة الأجداد.
• الأسواق القديمة، والمشاهد التي تعكس البساطة والروح الحيّة للمدن العُمانية.
يقول العامري:
“أنا لا أعيد رسم المكان، بل أبحث عن إحساسه، عن نبضه الذي قد لا تراه العين، لكنه يسكن في القلب.”
الفن بين الصمت والبوح: عندما يهمس اللون للروح
“كل لوحة هي نوع من الاعتراف، لحظة مكاشفة بيني وبين ذاتي.”
في تجربة العامري، الفن ليس مجرد عملية إبداعية، بل هو تأمل صامت في الوجود. كل خط، كل مساحة فارغة، كل ظل، يحمل معناه العميق، كأن اللوحة لا تبوح بكل شيء، بل تترك مساحة للمتلقي كي يعيد قراءتها بطريقته الخاصة.
حين سألته عن مصدر إلهامه، أجاب بصدقٍ عفويٍ :
“الحياة نفسها. التفاصيل اليومية. مشهد الغروب في مطرح. صوت الآذان في الأزقة القديمة. تحدّي الحصن و القلعة و الحجر للزمن.
كل هذا يتراكم في داخلي، وحين أمسك بالأداة، أترك هذه التفاصيل تعبر من خلال أناملي بطريقتها الخاصة.”
رسالة فنية بلا حدود
اليوم، يُعد سيف العامري أحد الأسماء البارزة في فن الطباعة اليدوية في الخليج العربي، حيث لم يكتفِ بإنتاج الأعمال، بل ساهم أيضًا في نقل خبرته إلى الجيل الجديد. أقام العديد من ورشات العمل ، وشارك في معارض محلية وعالمية، ليؤكد أن هذا الفن التقليدي لا يزال قادرًا على التجدد، وأن الخشب والحبر كما الفحم و الرصاص يمكنهما أن يرويا قصصًا بصرية تتجاوز الحدود.
سيف العامري.. الفن كطريقٍ إلى التأمل
“في الفن، كما في الحياة، لا تمسك الأشياء، بل دعها تعبر خلالك”, هكذا يقول العامري، وكأنه يصف فلسفته الخاصة في الفن والتجربة الإنسانية.
إنه ليس فنانًا يبحث عن الجمال الظاهري، بل عن الجمال الذي يسكن بين التفاصيل، عن السرّ الذي يختبئ بين الخطوط، عن الحقيقة التي لا تراها إلا القلوب.
وفي كل لوحةٍ يخلقها، هناك رحلة جديدة، هناك دعوةٌ للتأمل، هناك ضوءٌ خفي يلوّح للمتأمل قائلاً: “اقترب… فالحقيقة ليست فيما يُرى، بل فيما يُحَس.”




