د. أنور الرواس شاهدا وشهيدا على المشهد السياسي العماني

بقلم : د. مجدي العفيفي
(1)
وضع للدكتور أنور بن محمد الرواس، على رفوف المكتبة كتابه الثاني «المشهد السياسي العماني» يبدأ بإضاءة ساطعة عن اللحظة العمانية الراهنة« عُمان.. دولة المركز وسلطنة المكان والمكانة» وتتفرع من هذه الومضة فصول الكتاب الثمانية الفصل الأول.. السلطنة والسلطان، والثاني..الديمقراطية. المفهوم والمنظور، و الثالث.. المشاركة السياسية ثم الفصل الرابع.. قراءة شاملة للتحولات ، يليه الفصل الخامس في الفكر السياسي العماني ، ثم الفصل السادس : الانتخابات التشريعية العمانية،ومن بعده الفصل السابع.. مؤسسات المجتمع المدني، ويتجلى الختام بالفصل الثامن.. الإعلام العماني
(2)
شيء ما في المنظومة الفكرية للدكتور أنور بن محمد الرواس، يشكل لي غواية، تحرضني على أن أتشارك معه في عملية الدخول إلى عالم القارئ بخصوصيته، وفضاء المتلقي بكليته.. هل لأن الروح الإعلامية تصفق بجناحيها عليه، كأستاذ جامعي للإعلام، وعليَّ كصحفي وكاتب يمتلك قلما، لا يعرف إلا الحق وصولا إلى الحقيقة؟ ممكن..! هل لأن القلم بألمه وأمله، يظللنا بكثافة عذاباته وعذوبته؟ فصرنا من أولياء القلم الصالحين المصلحين؟ احتمال..! هل لأننا خلقنا لإثارة الكثير من المسكوت عنه، واللًّامفكَّر فيه، بتضفير جدلية انتزاع الأقنعة، التي من كثرة التصاقها بوجوه أصحابها.. تتفتت؟ جائز..!
(3)
هذا الكتاب مختلف، فكاتبه شاهد وشهيد معا، إذ يقدم لنا أطروحته، من خلال شهادته الفؤادية والعينية، شهادة معرفية، وشهادة حضورية، سمعية وبصرية، بمعنى أن الشهادة تنقسم من حيث الطرف الذي يؤديها إلى قسمين: شهادة يؤديها شاهد، وشهادة يؤديها شهيد، فشهادة الشاهد شهادة معرفة وخبرة مكتسبة، أما شهادة الشهيد، فهي شهادة حضورية سمعية وبصرية، طبقا للأدبيات الإنسانية، فالشهيد هو العارف بالشيء، أو بالحدث الذي أدى شهادته للآخرين، فهو الحاضر العارف، وعكسه الغائب، والمعرفة عند الشهيد بالشيء.
(4)
ها هي النقلة النوعية، في سياق الرؤية العمانية، التي شهدتها مسقط في يناير 2020، تستدعي الوقوف على جوهرها، والتحديق في ثناياها: (وداع سلطان.. واستقبال سلطان) فهي فاصلة زمنية تجمع ثنائية غير مسبوقة في الفضاء السياسي العماني، فارقة في حيوتها ودقتها، ومستمرة في دلالتها وطاقتها، بين عهدين غير منفصلين، بل يتسلسل الثاني المحمل بالطموحات والتطلعات، من الأول المكتنز بالمنجزات والتجارب، في عملية احتواء سياسي ومجتمعي، داخليا وخارجيا. وقد استطاع د. أنور الرواس، أن يلتقط جوهر هذه اللحظة في كتابه «المشهد السياسي العماني» ذلكم أن اللحظة الراهنة غير مفصولة عن سابقتها، إذ تؤكد مجددا، قيمة تسلسل الأجيال، وهي قيمة عمانية سامية الدلالة، كما سيتضح بعد سطور.
(5)
استقطبتني في رؤية د. الرواس، وقفته ذات المرجعية المعرفية والعرفية والأخلاقية والجمالية، وهو يشير إلى قيمة التجاور والتحاور، والتواصل والتفاعل، في حضرة السلطان الراحل وحضرة السلطان الراهن، ويطرح بكثافة إضاءته الساطعة في ثلاثة أبعاد عن «عمان دولـة المركـز، وسلطنة المكان والمكانة»:
البعد الأول, أن السلطان الراحل قابوس، رحمه الله، غرس في شعبه الحب الأبدي لعمان، وما دون ذلك يعتبر مسارا صالحا للتوافق والاختلاف، ضمن الأطر المؤسسية التي تحتضنها الدولة، من عايش المرحلة الحديثة لعمان، منذ انطلاقتها في عام 1970، يدرك حقيقة ما أرمي إليه، من حب لتراب هذا الوطن، ولهذا فإن التأسيس كان ممنهجا ونموذجا ونورا، وأنه حافظ على الدولة ذات التاريخ والحضارة، وهو الذي أدخل العمانيين في منظومة النظام والقانون، ليكونوا شركاء، ومتاريس عملية، للحفاظ على الدولة ونظامها، الدولة الركيزة، والمحور الذي تنطلق منه المسارات، في البناء والتعمير على المستويين الإنساني، كتنمية العقول.
البعد الثاني.. أنه في ضياء المشهد الذي يصفه مع العالم أنه «كان عظيما، بعظمة الأرض الطيبة، التي لا تنبت إلا طيبا، فآتت أكلها في توافق، جسدته أسرة آل سعيد في الاحتكام إلى وصية السلطان الراحل، الذي اختار لعمان وللعمانيين، الشخصية التي ستقود المرحلة المتجددة، فالتوافق كان أساسه الدولة، والتلاحم الوطني كان منبعه الإرث الحضاري للدولة، ومن ثم فقد سقطت كل التكهنات التي كانت تراهن على الخلاف، وسقطت معها تطلعاتهم لحدوث ذلك».
وإذا سألناه: لماذا..؟ يجيبنا:«هذه عمان.. الدولة، وسلطنة المكان والمكانة، التي تحرك من يعيش على تربتها، ليكون نموذجا، وأسوة حسنة، لمن أراد لذلك سبيلا، لقد أقسم السلطان هيثم بن طارق، سلطان عمان، في الحادي عشر من يناير 2020، أمام مجلس عمان على احترام النظام الأساسي للدولة والقوانين، وأن يرعى مصالح المواطنين، وحرياتهم رعاية كاملة، وأن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه, والتزم جلالته في خطاب السامي الأول، أمام العمانيين والعالم، السير على النهج القويم، للمغفور له، السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، والحفاظ على ما أنجزه، والبناء عليه، لترقى عمان إلى المكانة المرموقة، والعمل على رفعتها وإعلاء شأنها، والسير قدما نحو الارتقاء بها إلى حياة أفضل».
وهنا يتجلى البعد الثالث, في الدولة «التي توجه من يقودها، لأن يضع نصب عينيه، مرتكزاتها القومية والوطنية، فهي تمثل مصدرا لقوة العمل المستقبلي، وثباتا لهيكلة العمل المؤسسي، وهدفا للاستقرار والنماء، والدولة هي الثابت، وما يدور في فلكها هو المتغير».
(6)
نعم.. دكتور أنور، وأشهد مجددا، وأنا مطمئن، وشهودي هي الثلاثون عاما المتواصلة التي عشتها في رحاب هذه الأرض الطيبة, ولا أزال، وإن تباعدت الجغرافيا المكانية بحكم التحولات، أنه في هذه اللحظة العمانية الراهنة، تتناغم عمان دولة وشعبًا ومجتمعًا، تخفق بأجنحة النهضة المستمرة، تصفق بالبشارات المنتظرة، وتومض بالإشارات المبشرة، والنفوس تمتلئ بالأمان والأمل، والعيون في حاضرها ناضرة، وإلى غدها ناظرة، وبمستقبلها مستبشرة، وإلى وجهتها ساعية لمزيد من دفقات النور والجمال، والإقلاع نحو المستقبل
العمانيون شعب دولة ذات شخصية جادلت الزمن، وحاورتها الأيام، واتخذت منها الأحداث مسرحًا لاكتشاف معادن الشعوب، على تعاقب الأزمنة، باعتبار أن التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض، وأنه قد أوقف عليها رجالا أضافوا إليها الكثير بأعمالهم ومآثرهم، فليس بغريب أن تقدم عمان ذاتها إلى العالم بهذا التشكيل الحضاري في الحكم والسياسة، من خلال حيوية الإنسان بإنسانيته وكرامته ومواطنته ووطنيته، والأرض بتاريخيتها وجغرافيتها، وخيراتها وخبراتها، وآثارها ومآثرها، وأنعمها ونمائها، والوطن باتساع معناه ومداه، وبحدوده وجذوره، وبما فيه ومن فيه.
وأنا على ذلكم من الشاهدين..!
(7)
يتماس فكر كاتبنا الرواس مع كثير من المشتغلين بالفكر, على كافة أصعدته، وتباين مساراته، وتمايز أصواته، إذ لا مجال للصوت الواحد، التعددية تثرى الرؤى، والاتجاه الأحادي ولَّى، وتداخل الأصوات وتشابكها، وحتى اشتباكها سمة المجتمعات التي تستحق الحياة، وتعددية الأصوات تغني الأفكار، وتوسع الأفق، وتضيء مساحة الإظلام التي تكشفها شمعة الصوت الواحد، تلك التي وظيفتها أنها بقدر ما تنير مساحة محددة من الظلام، فإنها تكشف مدى مساحة الظلام الواسعة حولها.
انتهى عصر الصوت الواحد، وتجمد قطب الفكر الأحادي، أو يفترض ذلك أيضا، وصارت التعددية الصوتية، أكثر الوسائل التي تفسر الواقع من عدة وجهات نظر متراكبة في آن واحد، ولا تعتمد على وجهة نظر واحدة أو وحيدة، وسيجد المتلقي الكريم تداخل الأصوات، ومن عرف سر التداخل انفعلت له الأشياء.
وتأسيسا على هذا الإدراك، يستدعي كاتبنا الرواس، مقولات فكرية إشارية مكثفة، لكنها ذات سعة عالية في الدلات، إن كل مقولة هي بمثابة مقال في جملة.
من جميل اختيارات د. أنور الرواس. هذا التوافق بين مقولتين ساميتين, الأولى عمرها خمسون عاما في مطلع الزمن القابوسي 1970، والأخرى مع الفاصلة الثانية للعهد الجديد 2020، إذ يستدعي كاتبنا مقولة للسلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، قالها في بيانه الأول للشعب 27 يوليو 1970: «إننا نعاهدكم بأننا سنقوم بواجبنا تجاه شعب وطننا العزيز، كما أننا نأمل أن يقوم كل فرد منكم بواجبه لمساعدتنا على بناء المستقبل المزدهر السعيد المنشود لهذا الوطن». لتتواصل معها لا إراديا مقولة للسلطان هيثم بن طارق آل سعيد، في النطق السامي 11 يناير 2020: «إنَّ الأمانة المُلقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة، وينبغي لنا جميعا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد، وإعلاء شأنه، وأن نسير قدما نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك، إلا بمُساندتكم وتعاونكم، وتضافر جميع الجهود».
هذه التوافقية لا يمكن أن تكون من قبيل المصادفة، ذلكم أن ثمة ثلاثة أمور تمثل مهادا فكريا للأرضية المعرفية، التي تمتد عليها دوائر التكوين العماني العام، وتشكل في الوقت ذاته امتدادا مركزيا، ضمن مجموعة الثوابت العمانية، مهما كانت المتغيرات التي لابد من تحسبها.
أما الأمر الأول فيتجلى في أن منظومة عمان المعاصرة تتشابك خيوطها زمنيا، إلى درجة يكاد يصعب، بل يستحيل الفصل بينها، والأمر الثاني يتمثل في أن خطوط المنظومة تتداخل، ولابد أن تتداخل، ذلك أن اللحظة التاريخية المؤثرة في حياة الأمم، محال أن تتفجر من فراغ، بل لا بد لها من مخاض فكري يسبقها بإرهاصاته، أما الأمر الثالث، فإن حلقات المنظومة تتواصل باستمرار، وإن تباعدت أحيانا، فذلك ينسجم مع معني أن الفواصل الرئيسية في الزمن، هي مناسبات تستحق الحفاوة والاحتفال، وأنها أيضا مفعمة بالدلالات الرمزية.
(8)
ثمة فاتحة قرآنية أضاء بها الدكتور أنور الرواس صفحات كتابه، تتجلى في الآية العظيمة رقم (38) من سورة الشورى:}وَٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِرَبِّهِم وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوةَ وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم وَمِمَّا رَزَقنَهُم يُنفِقُونَ{.
ويتحلى الكتاب بإضاءة كونية، رفيعة المعنى، ثرية الدلالة للصوفي الثوري (جلال الدين الرومي) : «رفعتُ لله قِنديلي فأوقده، فَهل تظن يدا في الأرضِ تُطفِئني؟».
وفي فصل «الديمقراطية.. المفهوم والمنظور» يتسامى قول (الإمام علي بن أبي طالب): «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استبد برأيه» ومقولة (الإمام أبو حامد الغزالي) «الحرية مع الألم أكرم من العبودية مع السعادة».
وفي فصل «المشاركة السياسية» يعلو صوت (جان جاك روسو): «رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس»، كأن يقول (أفلاطون) «لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات» أو «حيث تكون الحرية يكون الوطن» الرئيس الأمريكي القديم (بنجامين فرانكلين)، ومن المفارقة التي تكشف عن دهاء في الإسقاط السياسي، بعد هذه المقولة الأمريكية القديمة، ما جاء على لسان الفرنسي (نابليون بونابرت): «ويل للعالم حين تصبح بربرية الديمقراطية الأمريكية سيدة العالم» وهي نبوءة نجد لها أمس واليوم وغدا، تصديقات مرعبة شتى على مسرح السياسة الدولية..!
وتتنازع كاتبنا رؤى استثنائية من كل صوب، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، كأن يستشهد في سياق حديثه عن الديمقراطية بمقولة (عباس محمود العقاد): «قبل أن تنشأ في الأمة ديمقراطية سياسية، يجب أن تسبقها الديمقراطية الاجتماعية» و«الديمقراطية نظام في المجتمع، قبل أن تكون نظاما للحكم» لـ(سلامة موسى) ومن فكر( نيلسون مانديلا): «أنا لست حرا حقا إذا أخذت حرية شخص آخر، المظلوم و الظالم على حد سواء، قد جردوا من إنسانيتهم».
ومن الإشارات المختارة بلغة الأعماق البعيدة، ما انتقاه للدكتور (إبراهيم الفقي): «لا تتعجب من عصفور يهرب وأنت تقترب منه، وفي يدك طعام له، فالطيور عكس بعض البشر، تؤمن بأن الحرية أغلى من الخبز..!»، وكلها مقولات تتساند لتتماسك جدران منظومة د. أنور الرواس الفكرية في هذا المشهد السياسي الإعلامي، كأن يقول المبدع (محمد الماغوط): «أسوأ ديمقراطية في الدنيا أفضل من أعدل ديكتاتور»، وتتجادل معه كلمة للفيسوف الغربي (نيتشه): «الإنسانية عاشت حتى الآن، على عبادة الأصنام، أصنام في الأخلاق، أصنام في السياسة، أصنام في الفلسفة» وعندما يحلق في أجواء الإعلام، تبرق مقولة (محمد حسنين هيكل): أرجو أن تتذكر أن الديمقراطية ليست هدفا، هى وسيلة لتنظيم استعمال الحرية، وتتجاور معها مقولة (ميلوس فورمان): «إن حجر الزاوية فى الديمقراطية هو الصحافة الحرة».
(9)
أدعو حضرات القراء إلى ساحة هذا المشهد، بدون وسائط، ولا حواجز، ولا إيماءات، ولا إيحاءات، إلا ما يفتح آفاقا أكثر اتساعا، للتحليق والتدقيق، والتذوق والتحقق، وإثارة ثقافة الأسئلة، والمسكوت عنه، الذي هو أكثر من المباح وأكبر من المتاح.
(10)
القراءة.. كتابة أخرى..!
القراءة.. إبداع أيضا..!     
  

زر الذهاب إلى الأعلى