عُمان.. أمة بحرية صنعت مجدها عبر الأمواج ومدّت جسور التواصل بين الحضارات

مسقط في 2 نوفمبر /العُمانية/يُجسّد التاريخ البحري العُماني على مرّ العصور إرثًا ثقافيًّا وحضاريًّا عريقًا جعل من عُمان أمةً بحريةً رائدة، ومركزًا للتواصل الإنساني بين الشرق والغرب عبر الحوار والسلام، فكانت أشرعتها رمزًا للانفتاح، وسفنها جسورًا جمعت بين الشعوب والحضارات، ورسّخت صورة العُماني كرمزٍ للإنسانية والتسامح.

ويبرز في هذا التاريخ الطويل حضور القيم العُمانية الأصيلة من صدقٍ وأمانةٍ وحسن تعامل، وهي القيم التي تركت بصمتها في شرق إفريقيا والهند والصين وجزر جنوب شرق آسيا، وأسهمت في بناء علاقات إنسانية وثقافية متينة، ما جعل من الإرث البحري العُماني مصدر إلهام للأجيال في ترسيخ قيم التعاون والتعايش.

ويستعرض هذا التقرير ملامح التاريخ البحري العُماني، وأبرز محطاته الجغرافية والرمزية، إضافةً إلى الشخصيات والمبادرات التي أسهمت في بناء هذا المجد، وكيف سخّرت سلطنة عُمان هذا الرصيد الحضاري لتعزيز حضورها العالمي عبر الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة.

يقول الشيخ حمود بن حمد الغيلاني، الباحث في التاريخ البحري، إنّ لكل أمةٍ ثقافتها الخاصة، وعُمان كانت دائمًا جزءًا فاعلًا من العالم تتأثر وتؤثر، موضحًا أنّ التأثير العُماني كان بارزًا في نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالقوة، إذ لفت صدق العُمانيين وأمانتهم أنظار شعوب إفريقيا وآسيا إلى الإسلام فاعتنقوه طوعًا.

وأشار الغيلاني إلى أن العُمانيين تركوا أثرًا ثقافيًّا واضحًا في إفريقيا والهند، تجلّى في الصحافة العربية العُمانية التي ظهرت هناك، وفي القصص التي تروى عن تجارهم ودعاتهم الذين نشروا القيم الإسلامية واللغة العربية. كما برزت أسماء ملاّحين عُمانيين كبار مثل أحمد بن ماجد ويزيد العماني وإسماعيلويه، الذين ساهموا في رسم طرق الملاحة البحرية التي استفادت منها أمم كثيرة.

وأوضح أنّ الوجود العُماني في شرق إفريقيا بلغ ذروته في عهد السُّلطان سعيد بن سلطان الذي جعل من زنجبار مركز إشعاعٍ حضاريٍّ إسلاميّ، إذ أسهم التجار العُمانيون من أمثال خميس بن جمعة وحمد بن محمد المرجبي وغيرهم في نشر الإسلام والعربية وتعزيز الروابط الإنسانية.

من جانبه، يؤكد المكرّم الدكتور صالح بن محمد الفهدي، عضو مجلس الدولة، أنّ التاريخ البحري العُماني جزء أصيل من الهوية الوطنية، وشهادة على عمق حضارة هذا الشعب الذي جعل من موقعه الجغرافي المميز بوابة تواصل بين الشرق والغرب. فقد كانت موانئ مسقط وصور وصحار وقلهات وسمهرم ومرباط مراكز نابضة بالحياة، يجتمع فيها التجار والمسافرون من مختلف الأجناس والثقافات.

وأضاف الفهدي أن العُمانيين اشتهروا بأنهم “سادة البحار”، إذ وصلوا إلى الصين قبل الميلاد، وهو ما وثّقته الحوليات الصينية التي تشير إلى أن العُمانيين كانوا أول العرب الذين رست سفنهم في ميناء كانتون (غوانزوا). وقد عُرفوا بأخلاقهم العالية وعدلهم في التعامل، مما سهّل لهم نشر قيم الإسلام والتسامح.

وبيّن أن الإنسان العُماني كان وما زال من أهم ركائز القوة الناعمة، لما يتحلى به من صدقٍ وسلوكٍ حضاريّ، وهو ما رسّخ مكانة عُمان في ذاكرة الشعوب التي تواصلت معها، ولا تزال المساجد التي بناها العُمانيون في الصين شاهدة على أثرهم الثقافي والديني.

أما الباحث البحري خالد بن علي المخيني، فأشار إلى أن البحر كان بالنسبة للعُمانيين أكثر من مجرد مصدر رزق، بل هو هُويةٌ وملهمةٌ للحياة. فقد صاغت الجغرافيا البحرية لعُمان روحهم الملاحية، ودَفعتهم إلى الإبداع في صناعة السفن وعلوم الملاحة. وتوارث البحّارة العُمانيون معرفة دقيقة بالنجوم والرياح والمد والجزر، مكّنتهم من عبور المحيطات بأمان وثقة، وتحويل موانئهم إلى مراكز تجارية عالمية.

وبيّن المخيني أن الأدوات التقليدية مثل الإسطرلاب وخشبات ابن ماجد والبوصلة والساعات الرملية كانت تعين البحّارة في تحديد المسارات والأعماق، وأن الرياح الموسمية جعلت رحلاتهم أكثر أمنًا وفاعلية، ما ساعد في ازدهار التجارة العُمانية مع الهند وشرق إفريقيا والصين.

وتقول الدكتورة بدرية بنت محمد النبهانية إن مشروع سفينة “جوهرة مسقط” شكّل تجسيدًا حيًّا لإحياء التراث البحري العُماني القديم، إذ أُعيد بناؤها عام 2006م بمبادرة من المغفور له السُّلطان قابوس بن سعيد – طيّب الله ثراه – وأُهديت إلى سنغافورة عام 2010م، لتصبح رمزًا للصداقة والتعاون الثقافي بين البلدين، ومثالًا على الدبلوماسية الثقافية العُمانية المعاصرة.

وأضافت أن الرحلة التاريخية لجوهرة مسقط أعادت إلى الأذهان صورة البحّار العُماني الماهر القادر على تجاوز التحديات، وحملت إلى العالم رسالة عُمان في السلام والتواصل الإنساني، حتى أصبحت السفينة اليوم معلمًا ثقافيًّا في متحف سانتوسا العالمي بسنغافورة.

وفي السياق ذاته، أوضحت الدكتورة أحلام بنت حمود الجهورية أن الموقع الجغرافي المميز لعُمان جعلها عبر العصور محورًا رئيسًا في شبكات التجارة العالمية، ومهدًا للملاحة البحرية في الشرق الأدنى القديم، حيث أسهمت السفن العُمانية في نقل البضائع والثقافات بين القارات.

وأضافت أن السفن الشراعية العُمانية، مثل صحار التي أبحرت إلى الصين عام 1980م، وجوهرة مسقط التي وصلت إلى سنغافورة عام 2010م، جسّدت روح التواصل التاريخي لعُمان مع العالم، كما واصلت السفن العُمانية الحديثة مثل شباب عُمان وزينة البحار تمثيل السلطنة في المحافل البحرية الدولية.

وذكرت أن سفينة الرحماني كانت من أبرز السفن الحربية في عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، إذ شاركت في فكّ الحصار عن البصرة عام 1775م، بينما مثّلت سفينة السلطانة ذروة الدبلوماسية البحرية العُمانية عندما أبحرت عام 1839م إلى نيويورك حاملة رسالة من السُّلطان سعيد بن سلطان إلى الرئيس الأمريكي، في أول بعثة عربية رسمية إلى الولايات المتحدة.

إنّ التاريخ البحري العُماني ليس مجرد صفحات من الماضي، بل هو حاضرٌ نابض ومستقبلٌ واعد، يجسّد روح الإنسان العُماني المنفتح على العالم، المتشبّع بالقيم والمبادئ، والمتمسك بالسلام والمعرفة. ومن خلال هذا الإرث العظيم، تواصل سلطنة عُمان بناء مكانتها الدولية عبر ترسيخ الهُويّة الوطنية وتعزيز الحوار والتفاهم بين الشعوب، لتبقى كما كانت دائمًا، منارةً للسلام والتواصل الحضاري.

زر الذهاب إلى الأعلى