في “بيت سليط” حيث حجرالأرض يبني سقفا للسّماء

حمود بن سالم السيابي
تأخرتُ أربعمائة عام وهذه الحجارة ما تزال تتعملق في المخيلة وكأن الشيخ عبدالله بن محمد بن غسان الكندي بِرَسْمِ الزحف على رأس جيش من البنَّائين للثأر لبيت سليط لتعود سيرته الأولى وبما يليق والزهو اليعربي.
تأخرتُ كثيراً وقد اندرسَ المكان ولكن لا خوف فالقصائد الشاهدة على المجد ستنفخ في الطين ليتخلَّق بيت سليط من جديد ويسترد جبل رضوى حجارة السفح ليضفِّر قممه و”يبني من حجارة الأرض سقف السماء” كما في قصيدة محمود درويش.
هأنذا عند الرفصة الأخيرة لمسجد الإمام محمد بن روح الكندي أترقب وقت الأذان بأمنية أن يقف في الصفوف كل الذين تألق بهم المكان منذ الوالي الشيخ عبدالله بن محمد بن غسان الكندي أحد أركان دولة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي إلى آخر الكنود ببيت سليط وهو الشيخ عبدالله الثاني بن محمد بن غسان الكندي قبل أن ينتقل البيت من عهدته لعهدة الإمام سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي ، ثم الشيخ حمدان بن سليمان بن سيف النبهاني الذي غادره مضطرا لخذلان الحليف ، فالسيد سيف بن حمد البوسعيدي الذي وسَّعَ نطاق راية السلطان فيصل بن تركي لتشمل سفالة وعلاية نزوى فينصِّب أخاه السيد حارب بن حمد البوسعيدي ممثلا له في العلاية ، ثم دخول الحصن تحت الراية البيضاء للأئمة سالم بن راشد الخروصي ومحمد بن عبدالله الخليلي وغالب بن علي الهنائي ، لتعود الراية البوسعيدية من جديد على سارية المجد.
لقد نودي للصلاة من مسجد محمد بن روح الكندي فَهَرْوَلَتْ سمد والردَّة والسويق والمدَّة لتحاذي بين المناكب وتسد الخلل ، إلا أهل بيت سليط اختاروا مسجد سليط لتتساوى الرؤوس وتتطاول المناكب وتنشغل الأذهان بسدِّ أكثر من خلل وبمساواة أكثر من صف.
ما زلتُ في مسجد بن روح أطالع بيت سليط الذي لا يُذكر إلا وتُذْكَر معه أجمل قصور زمانه وأشهر الأواوين
ولا يخطر اسم مالكه الشيخ عبدالله بن محمد بن غسان الكندي إلا مخفورا بأسماء مليارديرات ذلك الزمان الذين يحيطون قصورهم بأسوار بعرض ستة أمتار بما يسمح للخيل أن تقطع عرض السور ركضا وهي تصهل في سمع الزمن.
بل وبمقدور سيارات زماننا أن تسرع فيه دون أن تقترب من الحواف.
لقد عانق سقف بيت سليط الساس إلا أن الشيفرة الهندسية بعروضها وأطوالها وأبعادها محفوظة ليوم توقد فيه نزوى “مِهَبَّات” الصاروج وتسوق الحصى فيعود للعلاية توأم الشهباء ويتسابق “الأصل وظلُّه” بهدي من خزين صور الشعراء ورسومات الشعراء.
هذا ألبوم الشيخ خلف بن سنان الغافري أحد أهم الشعراء المعاصرين لبيت سليط يركز على العراص الطاهرة حيث كندة ومن قاسمها سكنى المكان ترفد الشمس ببهاء العمائم وغرر الوضوء.
ويقارن الشاعر الغافري بين روحانية مكة المكرمة والذين اتخذو من “بيت سليط” جوارا :
“ولا بون فيها بين ساكن مكة
ومن داره بين البقاع “سليط”
وتلتقط “كاميرة” الشيخ سليمان بن سعيد بن ناصر الكندي وهو جار بيت “سليط” وسليل البناة العظام لبيت سليط صورة يتكثف فيها شموخ البيت بأبراجه التي رآها ناطحات بقياس ذلك الزمان :
“فانظر إلى “بيت السليطي” الذي
أبراجه نحو السماء تنطَّحَنْ”
ثم ينقلنا الشيخ أبو سلام الكندي من بذخ بيت سليط إلى بذخ إطلالاته :
“من حوله النهر العظيم تخاله
شطّ الفراتِ به السفائن تسْبِحَنْ”
أمَّا شاعر الجوف المر بن سالم الحضرمي فيرفع بيت سليط “شهباء” أخرى للعلاية لتتكامل به نزوى مع القلعة الشهباء المشهورة.
ويجعل المر الحضرمي “الجَمْعَ” بين السفالة والعلاية تحت راية السلطان فيصل بن تركي كالجَمْعٍ بين “الأختين” لذلك اجتهد في البحث عن أعذار ل”سيف” فيصل بن تركي في هذا الجمع بين الأختين:
“أقرَّتْ به نزوى السفالة مقلةً
وضَمَّ إليها (أخْتَها) كيف تطلُقُ.
وحصَّنها ب”السَّيْفَ” عن أن ينالها
عدوٌّ بسوء فهو سور وخندقُ
وأنتَ لهم يا إبن تركي ملجأ
وأنتَ لهم زندٌ وكفٌّ ومرفقُ”
ورأى شيخ البيان أبو نذير محمد بن شيخان السالمي في ضم العلاية للسفالة بمثابة استحقاقات مؤجلة ، وبإتمام الفتح فإن نزوى تهنئ نفسها بسمد :
“وعلى البيت رأوا تسليطهم ،
راحة (بيت السليط) المستندْ
حمد البركة حمدان متى
سمدٌ زُفَّتْ لسلطان البلدْ
نادت العلياء في ذروتها
بارك الله لنزوى في سمدْ
وكان “بيت سليط” وارتدادات زلزال عودته لقبضة فيصل بن تركي مع غيره من فتوحات فيصل على خط التراشق الشعري بين الشيخ عبدالله سعيد بن خلفان الخليلي والشاعر السمائلي المجيزي
وبين المجيزي والرضي نور الدين السالمي وبين المجيزي وسليمان بن سعيد الكندي.
يقول المجيزي مثمِّناً فتح بيت سليط:
“لم أقل ذا الفتوح لما تسنى
(سيدي ذا الفتوح إحدى العجائبْ)
قد أدارتْ يد التهاني علينا
خمرة تعبق السما والكواكبْ
ساجعات الهنا تغرد شجوا
فيصل يمتطي النجوم الثواقبْ
ثم يخاطب مليكه المنتصر :
إنما النصر في يديك فخفف
وطأة القتل إنك اليوم غالبْ
وادخر هؤلاء جندا فما هم
غير سيف بساعديك ضواربْ
ليرد أبو سلام الشيخ سليمان بن سعيد الكندي :
“أراك تعاطيت أمرا عظيما
يؤديك يا ذا لشر العواقبْ
تعديت طورك حتى اقتحمت
تناطح صخرا هل العقل ذاهبْ”
وأعود لبيت سليط فهو حسب التدوين النزوي يرتفع لعلو ثلاثة طوابق
وتتكرر فيه ذات التفاصيل الموجودة في الحصون ، إذ يجمع بين القصر بغرفه وآباره ومسجده ونضده وسبلاته ومخازنه ومقابض حراسه ، وبين الحصن المحكم الاغلاق باستحكاماته الحربية وأساليبه الدفاعية المعقدة ومخازن الذخيرة.
وتخترق الحصن ساقية دارس بعد أن تمر حواليه فيتكثف خرير الماء داخل الحصن وخارجه.
أما لماذا انهار بيت سليط رغم أن الصروح اليعربية التي شمخت قبله ومعه وبعده ما تزال على حالها كما تركها البُناة العظام كالشهباء وجبرين والحزم وغيرها ، فيضع النزويون عدة سيناريوهات يجملونها في النزاعات التي دارت فيه وحوله وعنه :
ومنها الإهمال الذي طاله بسبب خروجه من عهدة ملّاكه إلى عهدة الدول ليصدق فيه قول: “إن مررتم بمزرعة خربة فهي إمّا موقوفة أو لأيتام”.
ومنها الشيخوخة الغائرة في ما يقرب من أربعمائة عام دون أن يرمم فتداعى.
أما الشيبة السالمي إبن نور الدين السالمي وأحد موفدي الإمام سالم بن راشد الخروصي في تسلم الحصن من السيد حارب بن حمد البوسعيدي. فيضعنا في كتابه “نهضة الأعيان بحرية عمان” في مشهد التسليم الحزين وما جرّ من فواجع بعد رفض الدولة المقايضة بين بيت سليط وحصن وجامع سمد.
ولعل صدور فتوى العلامة الشيخ عبدالله بن عامر العزري بهدم مسجد سمد وما حوله من تحصينات معتبرا إياه مسجد ضرار وإصرار الشيخ على إنفاذ فتواه أثناء توليه مهام نائب الإمام الخليلي منهيا بذلك أي حلم بجعل الحصون بيد الأشخاص وخارج قبضة الدولة.
وقد رأى القريبون من بيت سليط أن هدم جامع وحصن سمد بمثابة تحرير شهادة وفاة لبيت سليط.
أما آخر أسباب المصير الذي آل إليه بيت سليط فهي الحروب.
ويرى سيدي الوالد في كتابه “إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان” وهو يتحدث عن نسب كندة وعن أمجادها في نزوى وغيرها من الحوزات العمانبة ومنها تشييد بيت سليط كأحد الصروح الشامخة التي حملت البصمة الكندية فتطرق الواد لمصير هذا البيت ووضعه سيدي الوالد ضمن تشظيات الحرب بين السلطان سعيد بن تيمور ودولة الإمام غالب في نزوى وأنه كنتيجة لها انهار الحصن وأصابه ما أصابه.
بينما الأديب العماني الكبير الشيخ عبدالله بن محمد الطائي فيذهب في قصته التوثيقية الطويلة “ملائكة الجبل الأخضر” لأبعد من ذلك بكثير فيكثف حقد الإنجليز في حربهم على العمانيين أبان الحرب بين السلطان سعيد والإمام غالب.
ويستنسخ الطائي مشهدا مؤلما من ملفات الحرب يكشف قيام الانجليز بنهب محتويات بيت سليط ثم نسفه على من به وما فيه.
ولربما تلتقي سيناريوهات النهاية على حقيقة واحدة أن أمراً جللا قد حدث ، ورزءا كبيرا أصاب نزوى.
وقد لا يتحمل الزمن لوحده وزر ما حدث بل العامل البشري ليس ببعيد عن المسؤولية.
وفي الحالتين فإن بيت سليط ينتظر تسليط الضوء إليه ليعود.
وإن عاد أو لم يعد فإن ما تبقى من الحجارة ما زالت تشع في النفوس الهيبة ، وما زال بمقدور “حجر الأرض أن يبني سقفا للسماء”.
طويتُ وريقاتي وأوقفت التصوير فغادرت وأنقاض بيت سليط ما تزال تنتحب المآلات.
وفلج دارس ينساب ليواسي الجار.
ومسجد بن روح يؤذن ومن المؤكد أنه يمطر بالعبر.
ونخيل سمد تسائل أمهاتها عن الروض الذي كان والرجال الذين كانوا.
لأجد الإجابة على التساؤل في المقطوعة العذبة التي كتبها ابن آخر السادة الذين غادروا الحصن وهو الشاعر النزوي السيد سعود بن حارب بن حمد البوسعيدي الذي رأى في العدل ساد بألف ألف حصن وألف ألف “سليط” فالعدل أساس الملك.
وبترانيم السيد سعود أغسل عيني من وجع التطواف في وجع المكان:
تلألأ البارق العلوي من إضمِ
فارفض عارضه يهمي بمنسجم
وحنَّ موعده فانهل صيبه
سحا بمنخفض القيعان والأكمِ
فظل ينبت في الدأماء من زهر
ومن برود حكت ثغرا بمبتسمِ
حتى اكتستْ من رياحين مذهَّبةً
فضية فزهت فخرا على إرمِ
والماء يجري خلال الصخر مندفقا
تخاله عمدا من عسجد شبم
والطير يصدح فوق الغصن في جذل
يشدو على الروض صبحا في ذرى القمم
والنخل باسقة والطلح منتضد
والورد مبتسم يزهو على لكم
كما تبسم ثغر العدل من ملك
على رعيته في صور ذي الكرمِ
والحكم قد ساد فيها حكم خالقنا
وعمَّ جمع الورى عربا ومن عجمِ
—————————
مسقط في ٢٥ مايو ٢٠٢٣م





