“عندما نموتُ.. تتابعُ لندن الحياةَ

حمود السيابي


حمود بن سالم السيابي
———————————
هل يعود الرَّاحلون ساعة نغشى ذات الأمكنة التي جمعتنا وإن تقادم العهد ؟.
أكاد أتبيَّن الأطياف المجنِّحة وأنا أقطع “توتنهام كورت رود” لأدخل “جريت رسل ستريت” فتدخل معي.
هل تعود ضحكات ندامى العمر والحلم والمشاوير ؟.
أكاد أنْصتُ لقلوب أبيض من “الَبفْتة” وهي تضحك فتضيئ شوارع وميادين وحدائق “بلومز بري” فتنسى لندن مطرها وضبابها وشتاءها.
أهمُّ بدخول فندق “كنيل وورث” فتدخل معي ذات الأطياف والهمهمات بلهجاتها العمانية القحِّة.
أتلفَّتُ يمنة ويسرة لأربِّت على الأكتاف محيِّياً فتنكرني المعاطف والرطنات.
وتتسع دهشة العيون الرمادية التي ترمق كفِّي المربِّتة.
وتدور الرؤوس الشُّقْر لآخر مدى تسمح به فقرات الرقبة
وتشتعل الوجوه الحنطية بأسئلتها عن هذا البكَّاء.
إنَّه فندق “كنيل وورث” بمبناه الإنجليزي الممعن في القِدَمِ لولا بعض اللمسات التي أدخلتها سلسلة فنادق “راديسون بلو” التي تديره الآن فتنبض بالعصر.
كل الوجوه في الاستقبال بعمر أصايص الزرع في مزهريات الفندق فمن العبث مساءلتها عن يناير ١٩٧٨ يوم جئت لأول مرة ومعي هذه الأرواح الطوَّافة.
لقد رحل الرفاق بأبدانهم ولم يرحل “كنيل وورث” ولا “جريت رسل ستريت” ولا لندن ، “فعندما نموتُ تتابعُ لندن الحياةَ” كما تقول الشاعرة البريطانية سارة ويندل.
وما زالت لندن على حالها تجدول زيارات عشاقها من الساسة ورجال الأعمال والدارسين في الجامعات وطالبي الاستشفاء والسياح و”اليوتيوبريين” والثائرين فلندن ستتابع الحياة.
رمقتُ كهْلاً في الزاوية اليسرى وقاربتُ سنوات خدمته التي ذكرها بأيام مجيئي.
ها نحن نلتقي إذن ولدينا ما نقوله عن الفندق والأصدقاء.
اقتربتُ منه لأنْعِشُ ذاكرته بوجود جلسة كانت هنا فلم يتركني لأكمل بل انسابت ذاكرته الشابة على منحدر التفاصيل.
بدأ في ترتيب الأرائك والطاولات في الخيال فلا أرائك في زاويته ولا طاولات وسطية.
وحدد بدقة الموضع الذي كانت عليه شاشة التلفزيون.
وساق عربة تراصَّتْ عليها أكواب القهوة الإنجليزية ولكن لا قهوة ولا “ترولي” ولا ندامى يشربون ثمالة الأكواب بل مجرد ملفَّات منسية في ذاكرة كهل عابر للزمن وما زال يعمل بعقد لعدة ساعات في الأسبوع ليرفع من دخله بعد أن خرج على التقاعد.
وليعزز ارتباطه ب”كنيل وورث” و”بلومز بري” و”جريت رسل ستريت”.
اقتربُ من أصايص الزرع الأخضر ولكن دون أن أسائل عن ضيوف يناير عام ١٩٧٨م. “فالكاونتر” العصري يومض أرقاما وشاشات فيجعل السجلات الورقية من نثار الماضي.
ومع ذلك قلت لهم : أن “الكاونتر” كان على جدار المدخل وهو اليوم بمحاذاة المصعد.
لم يأبهوا للسؤال ولا انتظرت منهم الإجابة.
وأردفتُ : كان المصعد قديما وضيقا وهو اليوم بنفس الضيق لولا المرايا التي تحفز الخيال فيتسع بها إلى جانب اللمسة العصرية التي تعوض الضيق.
لم تحرك ملاحظتي شيئا ولا توقعت الاستماع لردود الفعل.
أشارتْ ساعة كاونتر الاستقبال إلى الثالثة وهذا وقت عودتنا من “السنترال أوفيس أوف إنفورميشن” وهو المركز الذي جئنا لنتدرب فيه على تقنيات الكتابة الصحفية.
لربما ستستعيد الأرواح الطوافة بشريتها وستدخل الفندق بدفاترها وأحلامها ولهجاتها العمانية القحّة عمَّا قريب.
إلا أن العزيز أحمد بن سليمان الكندي أغمض عينيه تحت نجمة جميلة في سماء شاذون ووميضها أبهى من “السبوت لايت” في سقف لوبي “كنيل وورث” أتراه يبارح هناك إلى هنا؟.
والعزيز سالم بن عقيل باعمر أيترك رذاذ الخريف في “إيتين” ليتحسس برودة المطر من شرفات “كنيل وورث” المفتوحة على المتحف البريطاني؟.
والعزيز محمد جداد في “مضيفته” العالية في الجبل حيث الحليب “المعذيب” أيستبدله بزجاجات من الحليب المبستر الذي توزعه بريطانيا في البيوت مع جرائد الصباح؟.
والعزيز معضد بن ديين الكعبي تحت غيمة واعدة في محضة ولعلها أكثر شاعرية من السماء الرمادية لعاصمة الضباب.
ووحدي ورفيق الوجع العزيز سالم بن رشيد الناعبي نتذكر “كنيل وورث” فنجيئ لنبكي.
ورغم أن قناعتنا أن”كنيل وورث” مجرد فندق كبقية فنادق الأربعة نجوم في حي “بلومزبري” إلا إننا لا نرتاده لنحصي النقصان والزيادة في عدد النجوم ، بل لنغرق في مجرته ولنتبين أنجم الرفاق الذين نحب ، ولنقرأ بعض عمرنا هنا.
ويوم قرر الشيخ الدكتور أفلح بن أحمد بن سليمان الكندي كتابة سيرة والده تحت عنوان “في ظلال أبي” أفسح المساحة المستحقة لفندق “كنيل وورث” وزار الفندق ليقتفي وشْم خطوات أبيه الذي مرَّ من هنا.
وجاء الشيخ العزيز سالم بن رشيد الناعبي في نوفمبر عام ٢٠٢٢ ليستدعي ضحكات معلَّقة على شفاه المكان وفاء لمن مرّوا بالمكان.
وأجيئ في يوليو عام ٢٠٢٣ إلى “كنيل وورث” لأتحقق من مقولة سارة ويندل “عندما نموت تتابع لندن الحياة” فأضيف :بأن أبناء من رحلوا سيكرروا المجيئ ليتابعوا معها الحكايا التي لن تموت ولن تموت.
ولعلي أختم بقصيدة الشاعر الإنجليزي توماس هاردي ، وقد مرَّ على وفاته ما يقرب من قرن من الزمان وما تزال قصيدته رطبة الحبر وندية المناسبة وكأنه كتبها لأجلنا فللشعراء نبوءة.
يقول توماس هاردي:
“جاء الأخوان،
وأخذوا كرسيين اثنين،
بطريقتهم المعهودة الوادعة؛
ولوقت لم نفطن له،
كان لديهم الكثير مما يقال.
وبدأوا بالحديث لفترة،
عن أشياء عادية،
حتى انتشر الصمت في أرجاء الغرفة،
حابسًا ما يُستعاد من أفكار.
ثم قالوا:
“أزف الوقت.
نعم: لقد حانت النهاية أخيرًا.”
وخشعت أبصارنا،
وعلمنا أنْ في ذلك اليوم،
روح ما قد رحلت”.
——————————
مسقط في العاشر من أغسطس٢٠٢٣م.

زر الذهاب إلى الأعلى