في بلدة “يينا” حيث ألقتْ سالمة راية العمر المهشَّم بجوار جرّة من تراب زنجبار

حمود بن سالم السيابي
سيّان إن متنا بجوار ضفة نهر أزْرَق أو سقطْنا عن الصهوات في الفلوات التي تكنسها الريح ، طالما أن النهر لن يسمعنا رقراق مائه ولا بكاء الخيول الموجوعة شوقا للقابضين على الزمام.
حتى الوطن الذي نتمنَّى أن يضمَّنا ترابه ذات موعد لن تضيف تضاريسه شيئا على جغرافية الموت ، طالما أننا لن ننعم بالإنصات إلى أذانات مساجده ولن تهزّنا أراجيح صباياه ولا مواويل نخيله ولا نداءآت الباعة الذين يجوبون حاراته وعلى رؤوسهم “صواني الدنجو والباقلاء واللوبياء”.
ويبقى الموت تحت أهداب الأمهات أو عند ظلة راكة خضراء أو سوقمة معمرة مجرد أمنيات نتوسل بها زيارة من محب قد يدعو ، أو عبور مسرع بجوار اللحود فيلقي السلام.
كل هذه الهواجس وغيرها تداعتْ وأنا أطالع مؤشر السرعة في السيارة حيث مازن يقبض على عجلة القيادة ويضغط بقوة على دواسة البنزين ليجعل الدرب قصيرا بين هامبورج وبلدة “يينا” فنحن في طريقنا إلى ضفاف نهر “زالة” حيث أغمضت الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان عينيها على جرَّة ملأى بتراب زنجبار.
ولعلنا بين قلائل تجشموا عناء قطع ٤٦٧ كيلومترا بين هامبورج وبلدة “يينا” في سفر معاكس للمسار الجنائزي للجرة الملأى بتراب زنجبار والجرة المكتنزة برفات الأميرة سالمة وقد نبشنا جرح المسافات.
ورغم أننا بذلنا ما وسعنا لمشاغلة الموت وحكاياه باستدرار بعض المرح من محطات الوقود المكتنزة التفاصيل والمضمخة بروائح البن المحروق في المكائن وفي أكواب القهوة وفي الموسيقى التي تمطر من سماعات السقف أو عبر القبض على أطراف خيوط الأحاديث مع من نقابل في المحطات من المفعمين بالحياة. لكن العنوان الكبير الذي مشيناه نحو عيني الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان لم يبدد حكايا الموت الذي ظل يتلصص علينا من وراء الشجر وعند ضحكة الأنهر ومع تثاؤب البحيرات الباردة محققا نجاحا لافتا في اختطاف الكثير من مرح الطريق.
ولا غرابة في ذلك ما دمنا في سياقات تتبع فلذة من فلذات كبد الوطن امتطت حصان الجنون من مزرعتها في “بوبوبو” فطار بها مع الريح نحو الشطآن البعيدة للبلطيق وبحر الشمال ، فلا بد للموت من أن يكون طرفا ونحن نتقصَّى الأثر ولا بد لكأس الحزن من أن نترعه.
كان ظنُّ الأميرة سالمة أنها بسفرها المجنون قد أفْلَتَتْ من قبضة إخوانها السلاطين.
وإنها غدتْ بعيدة عن نطاق الرؤية لعيون “المتوني والساحل وبيت العجائب”.
لكن المسكينة وهي تركض كان الشقاء دوما عند الأمتار الأخيرة لكل شوط.
ومتى ما ترجَّلَتْ عن حصانها انتظرها ليسايفْ.
ولكونها سليلة ملاعبي الأسنة ومقاتلة ابنة مقاتل فلم تغمد السيف ولا تخلَّت عن الرماح العوالي بل واجهتْ كل المفاجآت برباطة جأش ، مذ غادرت مزرعتها في “بوبوبو” وإلى أن هجعت في “أولسدورف”.
وفي المسافتين بين “بوبوبو” و“أولسدورف” كانت تقارع وتنكسر ، وراياتها وسيوفها ورماحها تتساقط فتعاود الالتقاط دون أن تستسلم.
وما أن تنتهي من شوط حتى تستأنف الشوط التالي بذهنٍ وقادٍ وعزيمةٍ لا تلين وكأنها في تحدٍ مع نفسها لتنتصر على مأساتها أو تموت.
أطالعُ الكيلومترات التي تتصرَّم في عدَّاد المسافات مذْ تركنا نهر “الإلبا” خلفنا والدرب تصعد بنا جنوبا فنحن نمشي عكس جريان نهر “زالة” أحد روافد نهر “الإلبا” فكان النهر ينساب نحو الأسفل والسيارة تحاذيه لتصعد.
وكنا ننشغل بقراءة اللافتات التي تدحرجها المسافات لنقارب دلالات أسماء الضواحي والقرى والمدن من “برجادوف” إلى “هانوفر” وإلى أن يأخذنا السهم نحو برلين ونتركها إلى “نويمينستر” ثم نطيل التوقف عند لافتة “لايبزج” لنتهجى الاسم طويلا وبعدها نتأتئ في تهجِّي لافتة “إيزنبرج” فمنعطف “رتلة” ثم “برجل”.
ومشينا ومشينا ومشينا ونهر الإلبا بروافده موسيقى المشاوير ، فالنهر ينبوع فرح للألمان الشماليين كونه يحمل الألوان لمزارع التفاح والعنب ويمنح المذاق لحقول التوت والفراولة ، ويعطي للشجر الشموخ.
وهو من يوشوش أماني النجِّارين بالمزيد من البلوط والزان والصفصاف والصنوبر لخشب الأبواب والأرائك.
بينما يحضر نهر الإلبا في مشوارنا هذا كطرف في الوجع بين نهر زالة حيث أغمضت الأميرة سالمة عينيها ونهر الألبا حيث تناثر رماد الرفات.
وكلما استطولنا المسافات تساءلنا : أهي المشاوير العابرة للجرح تجعل المسافات بهذا الأنين ؟.
أم هو الطريق ذاته بأطواله المسجلة في خرائط الترحال دونما زيادة أو نقصان؟.
وكلما داس مازن على البنزين وتعمقنا جنوبا في الاخضرار الألماني أمطرنا الأميرة بالعتاب : فما الذي حملها كل هذه المسافات من هناك إلى هنا.
وإذا ما تعانق الشجر فوقنا كقباب تحنو على الدرب ثمَّنا وأكبرْنا حسن الاختيار.
ولكن للأسفار كيلومترها الأخير وإن طالت ، فهذه بشائر بلدة “يينا” المندسَّة بين هذه الهضاب الخضراء توشك أن تطل ببرجها العصري المسافر إلى علوِّ ١٢٧ مترا كأطول أبراج ألمانيا الشرقية قبل أن تتوحد الألمانيتان تحت طائر العقاب الأسود المتوثب بمنقاره الأحمر.
وذاك البرج المثمَّن لكنيسة “السانت ميشيل” القادم من القرن الثامن الميلادي وبارتفاع ٧٥ مترا
وكأن “يينا” اختارت أن تقدم نفسها بجناحيها الحديث جداً جداً والقديم جدا جدا فيتوازن الأفق.
دخلنا “يينا” من جهة شارع “آلت ويزن” في طابور طويل من السيارات ولكل سيارة وجهتها ومقصدها وأميرتها التي تشغلها.
وكلما اقتربنا تكثفت “يينا” بحللها التاريخية القديمة كالجامعة التي تصنَّف بين أعرق عشر جامعات في ألمانيا فقد تأسست في الثاني من فبراير عام ١٥٥٨م على يد الدوق جون فريدريك الأول.
وحملت الجامعة اسم بلدة “يينا” عند تأسيسها ، ثم طغى اسم أحد طلابها وهو “فريدريك شيلر” الذي تعلَّم فيها وعلَّمَ حتى تبوأ موقع الرجل الثاني في قائمة الشعراء الألمان بعد “جوتة” فحملت الجامعة اسمه وما تزال.
وليس “فريدريك شيلر” وحده مصدر فخر الجامعة بل يتأنَّق سجل الجامعة باسم منظِّر الاشتركية “كارل ماركس” الذي نال الدكتوراه في الفلسفة عن أطروحته الفرق بين الفلسفتين “الديموقريطية” و”الأبيقورية” من هذه الجامعة وذلك في أبريل عام ١٨٤١م.
كما يزخر سجل جامعة “فريدريك شيلر” بحصول ستة من طلابها على جائزة نوبل.
وصلنا مركز المدينة فربطنا مطيتنا بظلة برج “يينا” ومشينا في البقعة الباذخة التي تستعرض فيها البلدة أمسها الضارب في القدم حيث البلدية بمبناها الأقدم على مستوى المانيا وكنيسة “السانت ميشيل” المسافرة في ١٣ قرنا وساحة “إيش بلاتز” والطريق الحجري للسوق القديم فالساحة التي يتوسطها تمثال “جون فريدريك الأول” مؤسس جامعة يينا ومتحف يينا المتجذر في ثمانية قرون وانتهاء بنافورة الزعيم “بسمارك” بمسطحات الجلوس الاسمنتية حولها ليلقي المتخمون من تكثف التاريخ تعبهم عليها وينزف المتسوقون خطوات المشي في صخب السكك المتعرجة للسوق.
وكنتُ بين المتخمين بالأمس والماشين طويلا في صخب السوق فألقيت مثلهم تعبي وأرَحْتُ عصا المظلة أو القدم الثالثة كما يصفها لبيد :
“لُزومُ العَصا تُحنى عَلَيها الأَصابِعُ”
كان الوقت حارَّا ذاك النهار وشمس “يينا” حارقة متى أطلتْ من الغيمات الحَيِيَّة وخاتلتْ الزرقة النادرة لأفق ولاية “تورينغن”
أغمضْتُ عيني وأنا على مسطحات نافورة بسمارك لعل ساعة البلدية تجر السنين نحو أوائل عام ١٩١٩ م يوم جاءت الأميرة سالمة إلى هذه البلدة لزيارة ابنتها “روزالي” أو الوردة كما تسمي نفسها وكما توقع بعض رسائلها بالعربية.
يبدو إن ساعة البلدية تستجيب لإرجاع الزمن فها هي الأميرة سالمة تغادر البيت رقم ٤ في “جارتن شتراسيه” لتغشى المنطقة التاريخية وهي تتكئ على كتف حفيدتها “أنطوني” فتدخل قاعة البلدية لأجل أمور تتصل بولاية “تورينغن” حيث “يينا” بين أهم بلدان الولاية.
أو لتلبي دعوة لحفلة موسيقية مستوحاة من قصيدة السعادة لفريدريك شيلر وبألحان بيتهوفن :
“لَنُلغي دفتر ديوننا،
ونتصالح مع العالم كلّه”.
أو لتجامل أصهارها فتحضر قداس الأحد في الكنيسة البروتستنتية.
أو لتكسر روتين البيت فتهفو النفس لطبق “زاوبر براتن” في مطعم “روتر هرش” الذي يعلق لافتة تشير للعام ١٥٠٩ م
أو تلتقي في أحد مقاهي النهر مع قادم من مدن الموانئ لعله اكتحل بشراع من زنجبار.
أو يوقظها السعال فتسرع إلى صيدليات السوق القديم لأجل قارورة دواء تتباهى بصنعها شركة “ميرك”.
أغمض عيني لأستدعي الأميرة سالمة تخرج من “جارتن” الشارع إلى “جارتن” البلدة وإلى ”جارتن” ضفاف نهر زالة.
فكلمة “جارتن” الألمانية من “جاردن” الانجليزية أي الحديقة ، وكلمة “شتراسيه” الألمانية من “ستريت” الانجليزية أي الشارع فهذا يعنى أن الأميرة سالمة في شارع الحدائق الذي يليق بها ويليق بشالها المرقَّش الذي أهداه إياها السلطان ماجد.
ومن عادة التسميات أن تطلق للتفاؤل ولكنها مع ”جارتن شتراسيه” وافقت المسمَّى ،
فالشارع في تلك المساحة هو الوحيد بشجره الأخضر السامق.
ولم يقتصر التفاف الشجر على الشارع فقط بل امتد ليلتف ببيت “آل ترومر” الذي يتربع على ناصية شارعين وقد مد شجره العالي عليهما.
والدخول إلى بيت زوج روزالي يتم عبر الباب الحديدي الأخضر للحديقة ثم الانعطاف نحو سلَّم المدخل ثم صعود سبع رفصات إلى الباب المطلي باللون الأبيض مع إطار عريض أخضر من الرزة إلى “مانيَّة” الباب فيتقوس الإطار على شكل قوس وتحته نصف دائرة من الزجاج المضبب لتسمح بدخول ضوء النهار.
يشير برنامج “اللوكيشنات” في هاتفي أن بيت “آل ترومر” الذي يستضيف الأميرة سالمة لا يبعد عن “نافورة بسمارك” حيث أجلس سوى ٨٠٠ متر أي بأقل من كيلومتر.
ويعطي البرنامج عدة خيارات للوصول إليه وأقربها ذاك الذي ستقطعه السيارة في ثلاث دقائق فقط عبر الجادة التي تضم ساحة وبرج يينا.
جربنا كل الخيارات فعبرنا الشارع جيئة وذهابا عشرات المرات كنا ندخل فيها ونخرج من وإلى المنطقة التاريخية.
وكان البيت لافتا بضخامته وبما يناسب مستوى ساكنيه القدامى كاللواء “مارتن جوتلوب رينهولد ترومر” الذي تعرفت عليه رزوالين حفيدة سعيد بن سلطان في بيروت فارتضته زوجا فجاءا معا إلى “يينا” حيث بيت العائلة القديم الذي آل إليه بالوراثة.
وإلى هنا كان يؤوب اللواء بعد نوبات من الحروب والبطولات والكثير من الأنواط والأوسمة.
هذا بيته إذن على ناصية التقاطعات بين جارتن شتراسيه” و”سِلِمْسِ شتراسيه” وليس ببعيد عنهما “هومبولد شتراسيه” الذي كانت تمخره مواكب الاحتفالات في السنين الخوالي كما في الروايات ولعله إلى الآن.
أطالع بيت “آل ترومر” دونما خلفية لديَّ عن العقارات لأقارب المساحة ولأقدِّر القيمة فأكتفي بشاعرية الموقع الساحر وحنوِّ ديمة من الشجر على نوافذه وشرفاته.
وبنظرة خارجية لاقارب بها تفاصيل الداخل فإنه يتكون من طابقين وقد تأنق الطابق الأول ونصف الطابق الثاني بالطلاء الأبيض بينما اكتسى نصف الطابق الثاني بالقرميد الأحمر. وتم الفصل بين الجزأين بإطار اخضر ليتماشى ولون السياج الحديدي للحديقة وإطار الباب وإطارات النوافذ.
أمَّا تفاصيله الخارجية فتفصح عن فخامة فائقة تجلَّتْ في بروز نوافذ الطابق الثاني من ثنايا تعشيق القرميد والخشب.
ورغم أنني لم أدخل البيت ولكنني تجولت في تفاصيله كثيرا عبر الإشارات عنه في الروايات ، وسمعت عويل ساكنيه في الرسائل.
هنا أمضت الأميرة سالمة آخر ست سنوات من الشقاء مع ذكرياتها المرة وعمرها المهشم وأمراض الشيخوخة.
وبينما انشغلت روزالي بزوجها العسكري الذي يؤوب من وقائع الجيوش الألمانية معفرا بغبار المعارك وبريق الأوسمة ، فقد تفرغت الحفيدة أنطوني لتخفف عن جدتها الأميرة سالمة بعضا من غلواء السنين.
إنها تعين جدتها على تذكُّر الأسماء والأمكنة ومراحل التاريخ فهي المؤنسة والحفيدة والسكرتيرة والذاكرة وكاتمة السر ورفيقة المشاوير إلى البلدة التاريخية وضفاف النهر.
أقف بالقرب من السياج الخارجي لحديقة البيت وأكاد أنادي الأميرة سالمة لولا مئوية رحيلها التي ستحين بعد سبعة أشهر ، فقد رحلت في ٢٩ فبراير عام ١٩٢٤م.
كما رحل كل الذين ينامون في الحكاية الزنجبارية الألمانية سواء اللواء “مارتن ترومر” الذي لحق بحماته الأميرة سالمة في ١٦ فبراير عام ١٩٤٠ وكذلك “روزالي” التي كانت اللحوق بأمها وزوجها في ١٤ شهر فبراير عام ١٩٤٨م.ليتكرر شهر فبراير في رحيلها ورحيل أمها ورحيل زوجها.
أخذنا انعطافة أخرى بالسيارة لنبحث عن المخرج الأقرب من “جارتن شتراسيه” لنهر “زالة” والذي كثيرا ما تغشى الأميرة صفافه لتتذكر نهر الموتني حيث ولدت ولتلقي بغصن أخضر لعله يسافر مع انسياب الماء من نهر “زالة” إلى نهر “الإلبا” في هامبورج ليلحق برودولف الذي ينام بعيد في “أولسدورف” فيزهر صفصافة في المقبرة.
هذا نهر “زالة” وهو كالكثير من أنهار الشرق والجنوب والوسط الألماني به زواياه الساحرة التي تخلب الألباب وزواياه التي تشوهها الحجارة الكبيرة.
ويزداد عمق النهر عدة قامات في منابعه “البافارية” عند “بايرن“ ويتضاءل العمق لما يغطي الأقدام ، فيبدو أقل مما تظهره القصائد ولوحات “البافاريين”.
نزلت عند فتحة “كيرن برج” حيث تخيلت أنها الأثيرة للأميرة الزنجبارية فهنا يقترب “زالة” من أنهار زنجبار بل ويشبه كثيرا وادي الحوقين في الرستاق.
انتظرتُ ليصفو الماء الذي كدره السابحون والمجدفون لعل الأميرة تطل على صفحة الماء وهي تتكئ على كتف حفيدتها فتنتفض الشوانب وتعود “بوبوبو” بشجر “أمباء الدودو”.
هنا بإمكاني أن أناديها بعلو الصوت فلن يستنكر الشجر ولا نهر “زالة”.
ولربما ستطرب الأميرة لقافية عربية اشتاقت لها.
وعند هذه الإطلالة للنهر أو ما يشابهها على الضفة الثانية كادت الأميرة أن ترتكب حماقة في حق الغد الذي سيبدأ بعد إغماضة عينيها.
جلستْ هنا ذات أصيل بارد رفقة حفيدتها وقد سئمت تكاليف الحياة كما يقول زهير بن أبي سلمى:
“وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ” فهمَّت بأن تلقي بمسودات ما كتبت وتجعل النهر يمحو كل المداد.
إلا أن يدا كانت بالمرصاد لتلقف الورق برائحة حبره وغموض حكاياته والكثير من أسرار المجيئ من البر الافريقي إلى البنادر الأوروبية فسلمَ الورق وتناسلت الحروف والكلمات.
ما زال طيفها عابرا لصفحة الماء لولا رفيف طائر فيزيحه ثم يعود ليتوسد الطيف شعاع الشمس فيطل فانطلقتُ لأوشوش الأميرة برائية سيدي الهلال السيابي التي أطلقها ذات زيارة لنا لرخامة مضجع رماد الرفات في ١١ أغسطس ٢٠١٨ م. في مقبرة “أولسدورف” :
“وقفتُ ترمقني من حولك العصرُ
- بنت الاماجد – والتاريخ والسيرُ
و تستبدّ بي الذكرى مؤرقة
مثل الصوارم في الاضلاع تشتجرُ
تجمع الدهر موارا بلحظته
كما تجمع من وديانه النهرُ
ولحت مضطرب الجنبين من لهف
في مشهد بشواظ الخطب مستعرُ
قد جئت والجرح في جنبي مؤتلق
وليس بين يدي جيد ولا حور ُ
اسائل الدار عمن بات يسكنها
فتصمت الدار لا حس ولا خبرُ
وتستمر بي الذكرى مجنحة
اليمة الوخز ، لا تبقي ولا تذرُ”
أحسستُ أن شجر الضفاف كان يتمايل كالنعَّاشات في رقصة “العيَّالة” وأن الضفاف كانت تتسع وهي تستمع لرائية الهلال فواصلتُ مع الشاعر في تساؤلاته للأميرة :
“من انتِ ؟ ما بكِ ؟ من تحت الرغام تُرى ؟!
فقلت : جوهرة قد غالها القدرُ !
كنز قد ادخرته للعلى حقب
ولحظة من سناها الشمس والقمرُ
وعرش مجد له فوق السماء سنا
فكيف قد خانه التوفيق والظفر” ؟!
واصل نهر زالة الانسياب لينتزع من الشاعر السمائلي إجابات على التساؤلات :
“هنا هنا بضعة من محتدٍ انفٍ
وضئضى مشرق من دونه القمرُ
هنا فتاة بني سلطان خالدة
تكاد تنجاب عن إنسانها الحفرُ
قرأتها فرأيت المجد منبلجاً
والفكر مؤتلقا والزهو يزدهرُ
لكن ولله في شأن الورى سنن
تظل في فهمها الألباب والفكرُ
قصي الحكاية – يا بنت العلاء – على وقع الخطوب
وقولي الآن مالخبر ؟!!
مات الإمام ‘ ابن سلطان ” فلم يكن الإخاء إلا نصالاً ثم تشتجرُ
وصارت الدولة العظمى مشطرة
والملك تحت حراب القوم منشطرُ
بحكم ” نايتنج” قد دار الزمان على
عماننا ، وتتداعى المُلْكُ والظفرُ
وشرق أفريقيا باتت ممزقةً
وبات يحكمها المستعمر الأشرُ
خلف البنين يشظي كل شامخة
من البلاد ، فأين العقل والبصر ؟!!
قد كان ملكا عظيما دون منعته
هام السما ء ، فاضحى وهو مندحر !
سبحان ربي له الأحكام جارية
في خلقه لو أباها الجن والبشر”
عدتُ من ضفة النهر مجددا إلى الساحة التاريخية لأصعد برج “يينا” الشامخ.
ومن علو ١٢٧ مترا رحتُ أبحث من جديد عن البيت رقم ٤ في شارع الحديقة “جراتن شتراسيه” لأستدعي التاسع والعشرين من فبراير ١٩٢٩ م فالطبيب “شفارتس” يصعد البيت برفصاته السبع نحو السرير البارد للأميرة سالمة في غرفتها الصغيرة بالطابق الثاني.
إنها تكاد تختنق فالالتهاب الرئوي بلغ مداه ، والعيون الغائمة آوت إلى مجراتها الرمادية أنهار الأحزان.
نادى الطبيب “شفارتس” على “سعيد رودولف وروزالي وأنطوني” ليبلغهم : إن أمكم تحتضر.
جادت الأميرة بالشهقة الأخيرة وهي ما زالت تنظر نحو الجرة الملأى بتراب قصر “المتوني” بزنجبار.
يكاد العويل يملأ البلدة فيحمله برجا “السانت ميشيل” و”يينا” إلى السماء ، بل ويحمله نهر زالة إلى نهر الإلبا ليسمعه “رودولف هاينريش رويتة”.
لقد انتهى كل شيئ لتخرج الأميرة سالمة من سكون الجغرافيا إلى اشتعال الحرف وتوهج الأبجدية. إنها لا تريد أن تموت فما زال حصانها المجنون ينتظر لتمتشق سيوفها المسلولة والرماح العوالي.
وفي طريق العودة من “يينا” كانت قصائد “فريدريك شيلر” بطول ضفاف “زالة” و”الألبا” تطبطب على صدور الحزانى ، “فالنواح لن يوقظ الموتى” كما يقول “شيلر” ولكن الأميرة سالمة تريد المزيد من النواح ليوقظ حروفها فتشتعل.
وتريد المزيد من الدموع لتتعمد حكايتها بالصدق.
تركتها مع قصائد “فريدريك شيلر” ولا أعلم ما إذا كانت تواسي أم تستمطر الدموع:
” دع ِ الدّمـوعَ تجـري من غير طـائل،
لا يستطيع النّـُواح أنْ يُـوقظَ المـوتى
السَّعادة الأشـدّ ُ حـلاوةً للقلب الحـزين
بعـد زوال مُـتعـةِ الحبِّ الجميـل”





