هل مات يحيى….؟

حمود بن سالم السيابي
هذا الرجل الباسم لن نراه بعد اليوم ، رغم الحاجة للأنقياء الذين يزرعون شجيرات الأمل. وهذا المجنِّح كالحلم لن نستمع لروحه الضاحكة ، رغم اضطرارنا للفرح في هذا الزمن العربي المُعْتِم الذي حشد قواه ليطفئ كل اللَّمبات. صحبته عقداً من الزمن في وزارة العدل وكان عاشقا للحياة ، فلعلَّ له من اسمه “يحيى” هذا الألق. ومن “عامر” اسم أبيه هذه الحيوية. أتذكَّر منتصف فبراير من عام ٢٠١٨م. وكان أبو عامر يطوي الصفحة البيضاء الأخيرة بوزارة العدل ، بل وبالعمل الحكومي كلِّه في احتفال مؤثر بالقاعة المتعددة الأغراض بالمبني القديم للوزارة حيث احتشد الجميع هناك. وكان الزملاء يهندمون المناسبة بالكلمات الدافئة ويعدِّدون فصولاً من عمره وأعمارهم. وقد تماهتْ الأسئلة في حميمية المناسبة عمَّنْ يحتفي بالآخر؟. ومَنْ يكرِّم مَنْ ؟.وكان أبو عامر باسماً كما لم يبتسم من قبل. وكان يرد التحايا بأفضل منها دون تكلُّف ، ودونما تأثُّرٍ بفراق الوجوه والمكان. وكان في حوارته التي تبادلها مع هذه وهذا يؤكد للذين ازدحم بهم المكان بأن عُرى الوظيفة هي التي بلغت العمر الافتراضي ، بينما أواصر الأخوَّة ممتدة ، ووشائجها بلا نهاية ، وبلا تاريخ مدون على التغليف ، وغير محكومة بالأسقف والأمكنة. وأنها باقية حتى الشهقة الأخيرة ، وحتى التشييع الذي سيسير وفق جداول وترتيبات لا نعلمها.ولعلِّي أتطوَّع وأقول أن أستاذنا يحيى بن عامر الكيومي هو من كان يحتفي بنهر النُّبْل الممتد ، وبالأخوَّة التي ستتجاوز عمر الوظيفة إلى ما بعد بعد بعد تاريخ وجغرافية الزمالة. وأتذكر أنَّ وزارة العدل أهدته سيفاً للتذكار ، ولربما ليحارب به ما بقي من العمر. لكن السيَّاف يحيى بن عامر الكيومي لم يسْتلّه ليعارك به ، فكلما امتشقه لمعتْ في النصل وجوه من عرفهم في مشوار العمر فيسارع إلى غمد السيف لكيلا تفرّ الوجوه العالقة التي أحبها. ومن عبثية الصدف أن زرت اليوم الجمعة ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٣م. أحد الأعزاء الذين يرقدون على سرير الشفاء فأخذني ممر المغادرة نحو مكتبة المستشفى لأدخلها بدافع الفضول فأجدني أغرق في عناوين الأرفف التي تضج بالقواميس الطبية والمعاجم المتقعرة في تاريخ الأمراض ، والطافحة بسِيَر آباء الطب منذ أبقراط فجالينوس فإمحوتب فابن سينا فابن رشد فراشد بن عميرة فالبروفسور بورست فمجدي يعقوب. واصلت القراءة وأنا أتحسس وجعي ، فكل أمراضنا لها جذورها في هذه المراجع. ما زلت ألاحق عناوين الأرفف فأتحسس وجعي لأصحو على حقيقة أن الطب نحح في قهر معظمها واستعصى عليه بعضها. ولعل مرض أبي عامر من بينها. ولعل مرض فلان وعلان ، وألف فلان وألف علان بين من لم ينجح المعطف الأبيض من أن يشع فيها. خرجتُ منقبضا وأنا أرمق بنظرات شزر آخر المعاجم وآخر القواميس وآخر النظريات. قلَّبتُ في هاتفي وبحثتُ في حافظة الصور فكان أستاذنا يحيى بن عامر الكيومي هناك بابتسامته وبسيف الحق الذي تسلمه من وزارة العدل. اطفأتُ الهاتف والصور وتركت أبا عمر يضيئ لوحده. عدتُ للبيت موجوعا فجالستُ التلفزيون لأرى قنطار غبار نووي يخنق غزة فنختنق معه. ومن ركام وقبح العجز العربي يطل أبو عبيدة ليقول لنا : “أن الأسرى بتبييض كل سجون العدو” فأتذكر سيف أبي عامر وهو يبرق بالوجوه فأناديه : هذا زمن الامتشاق.





