“مليتا” بإقليم التفَّاح أستعيد صرخة نزار.. “إياكَ أن تسمع حرفاً من خطابات العَرَبْ”

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي
بين “شومة” و”شومة” أنفض حقائبي لأخلصها من وزر ما علق بها من “الشُّومة” التي سبقتْ.
إلا تذكرة دخول “بانوراما حزب الله” في “مليتا” بإقليم التفّاح فقد عَرفَتْ كيف تتشبَّث بقاع الحقيبة وتنْدَسَّ بين وريقات السفر فتترحَّل بين الحقائب و”الشومات” وتقلع معي من أكثر من مطار وتهبط.
و”مليتا” كما تعرفونها هي ضمن جغرافية الحزب المنغرسة في خاصرة الجبل الموصول بجبال وسهول فلسطين.
وهي على تخوم التهديد الدائم فلا تبعد عن مستوطنات الجليل إلَّا بمقدار دويِّ الهاون وزخَّات الكاتيوشا.
ولعل تذكرة دخول “مليتا” بهذا التشبُّث إنما تختزل ما كُتِبَ على واجهة مبنى البانوراما بأنها “حكاية الأرض للسماء”.
ولكن عن أية حكاية تتحدث الأرض للسماء ؟.
والإجابة لدى حزب الله ، فالواضع أصبعه على الزناد وحده من يسرد حكاياته ، أصحيحة كانت أم خاطئة.
وقد تكون أرض الجنوب حيث تنزرع قواعده هناك.
وقد تكون أرض لبنان ببياض ثلجه وزرقة بحره وأرز جباله.
وقد تكون أرض ما بعد بعد الجليل بالتطلعات المؤجلة والإملاءآت المقيّدة والأمنيات المرحَّلة.
وفي أصيل الثالث من نوفمبر ٢٠٢٣ تابعتُ مع الملايين الخطاب المنتظر ، بعضنا بسقف مرفوع حدّ إطلاق ترسانة صواريخه دفعة واحدة لما بعد بعد بعد حيفا وبعضنا بأمنية الردع لعله يشوِّش بوصلة آلة الحرب لدي العدو الذي يفترس الأطفال وينسف قوارير الدواء ويطفئ القناديل ويدلق عبوات مياه الشرب ويصادر الأكسجين ، بل ويهدد وفق أحدث تصريحات وزرائه باستخدام النووي.
وجاء الخطاب المنتظر كما توقعه أغلب الناس مشدودا لتفاهمات ما بعد حرب تموز ٢٠٠٦ ، ولما بعد القرار الأممي ١٧٠١.
وجاء محكوما بصيغ الترسيم وتحاصص الثروات القابعة في قاع الأبيض المتوسط ، فلم تبتعد مضامين الخطاب كثيرا عن “مليتا” وعقيدتها ورسائلها ولافتاتها وأقبيتها وخسائرها ومكتسباتها.
ومع كل فقرة في الخطاب كنتُ أتحسَّس جيبي لأستعيد تذكرة دخول “مليتا” المدججة بغبار معارك الحزب في حرب تموز وما سبقها من معارك حرب التحرير مع جيش لبنان الجنوبي.
ومع كل هتاف وتصفيق لبيئات الحزب وقواعده وحشوده في الضاحية الجنوبية وحارة حريك وبلدات الجنوب وبعلبك الهرمل تتجلى بوضوح رسائل الخطاب وأجندات الخطيب وأولويات حزبه وتخندقاته ووجوده.
ورغم أن الخطاب كان عن طوفان الأقصى ، إلا أن مياه طوفانه تماوجت ضمن الحيز الجغرافي للحزب فلم تتجاوز تضاريس لبنان.
ونأى الخطاب بنفسه وبحزبه وبلبنانه من أن يكون طرفا يرفد الطوفان ، مكتفيا بدور المساند المشروط ، والذي ستتحدد مساندته مستقبلا وفق مجربات طوفان الأقصى.
ومع تدافع الخطاب كنا نستذكر “مليتا” التي زرناها في صيف ٢٠١٣ فأدخلتنا نفقا طويلا مشيناه وكان بالحالة التي تركها المرابطون ، وبظلامه وعرق رجاله وروائح باروده. وبجهوزية الحزب وأحداثيات معاركه.
وأتذكَّر أن أحد أنفاق “مليتا” انتهى بنا عند غرفة أشبه بصومعة يتوسطها تمثال لمقاتل يجلس وأمامه المرفع بمصحف مفتوح وهو بلباس الميدان وبكامل عدته وعتاده ، بينما قطيفة حريرية موشاة بالذهب غطَّتْ جدار القبو وعليها عبارة “السلام عليك يا أبا صالح المهدي”.
يومها طالعتُ التمثال ، وبكل تعبئته العقائدية تساءلتُ : ماذا لو نهض هذا الجالس وامتشق بندقيته وصوبها مستفسرا عن دوافع زوّار ليسوا من شيعة الكرار بالمعنى الشيعي الضيق ، فكان لزاما على الزوّار أن يفتحوا أقواساً في ردودهم عليه ، ليوسعوا التشيُّع الصحيح للكرار لكيلا يظل بهذا الضيق.
وأن يقولوا له بملء الفم بأنهم من شيعة سيد بدر وأحد والأحزاب والفتح.
وأنهم من أنصار حزب الصديق سيد حروب الردة.
ومن عشاق راية الفاروق في القادسية.
وأنهم يحبون ذا النورين ممول جيش العسرة ، وينتمون بقوة لأبي السبطين وداحي باب خيبر حيدرة الكرار وزوج البتول.
وأنهم يمتشقون عقائديا سيف الله وسيف ذي الفقار.
وأنهم مع صرخة “يا خيل الله اركبي”.
ومع من يستعذبون سماع “إرمِ سعد بأبي أنت وأمي”.
تدفَّق الخطاب ليعلي النبرة هنا ويزيدها هناك وأنا أردد معه : ما أقرب “مليتا” لفلسطين وما أحوجنا “للدوربينات” لنرى شجر المآذن البعيدة وسفوح الزيتون.
لم يحمل الخطاب ما يلفت سوى إقراره بأن “السابع من أكتوبر فلسطيني الفكرة والأداء والإخراج” دونما تدخل من أحد.
ولعل لهذا الإقرار رسائله في التنصُّل وفي التهدئة ، ولأجل أن يستبق به احتمالات ردود الفعل الطائش الذي سيطال مصالح الحلفاء.
وحتى لو لم يقر الخطاب بذلك فإن الكل يعلم بأن طوفان الأقصى انفجر فلسطينيا وثعب فلسطينيا ، وسيزهر فلسطينيا.
وأنه الأحق بسرد حكاية الأرض الحقيقية للسماء.
وهو من سيشكو أمّةً تخلت ، وعمقاً عربياً اقتطع نفسه.
لقد ترسخ في الذهن أن الفجر يبزغ مرتين ، ولكن بزوغه الأول مجرد فجر كاذب.
ولعله من السداد وحسن التوفيق أن فجر السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ بلا فجر كاذب.
وأنه خارج تعاقب الجديدين دونما أكاذيب قبله ولا أضاليل ولا أوهام تسبقه أو تعقبه.
وأنه خارج التوقيت العربي الآسن. وخارج معلقات العرب.
وخارج “مروج الذهب” و”المستطرف” و”العقد الفريد” و”أغاني الأصفهاني”.
وأن من مزايا فجر السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ في استحالة الاستنساخ.
وأن كل فجر يبزغ بعد فجر السابع من أكتوبر سيكون له ألْف فجر كاذب قبله وقبل قبله ، وبعده وبعد بعده.
وأنه لو ولد سيكون ناقص النمو ككل الخدَّج ، وسيحتاج لآلاف الحواضن الزجاجية.
ولو أطل فيكون على استحياء وسيبدو مسْخاً وماسخاً.
فيا أهلنا في فلسطين وأنتم أعلم بعمقكم العربي وبوشيجتكم الاسلامية عودوا لتشخيصكم الواقعي لكلام العرب.
وخذوا بتحذيرات نزار قباني التي أطلقها منذ عقود:
“إياكَ أن تسمع حرفاً من خطابات العَرَبْ
فكلُّها نَحْوٌ وصَرْفٌ وأَدَبْ”.
وتأكدوا أن الأمّة وإن كانت ولوداً فلن تنجب عمراً ثانيا سيأتي على دابته من طيبة الطيبة ليصلي ، فالرضي الفاروق قد أدى رسالتهعلى الوجه الأكمل.
ولاتنتظروا من الأمة خالدا ثانيا ، فسيد مخزوم أغمد السيف المسلول وأنهى تكليفه الجهادي.
ولا ترفعوا سقف الأماني بمجيئ جديد لصلاح الدين ، فحطين طوت رايات الفتح التي لن تنشر إلا على سواري الأكاديميات العسكرية.
يا أهلنا اخلقوا عُمَرَكم الخاص ودعوه يثعب من جرح طفل مظلوم فيأخذ بالثأر.
وخالدكم الخاص ودعوه يرهب عدو الله وعدوكم لتتوالى الانتصارات.
وأعدوا صلاحكم الخاص ليجعل حطينا على كل شبر من غزة العزة.
يا أهلنا في فلسطين لا ترفعوا سقف طموحاتكم بعرب الجوار ولا بجوار الجوار.
ولا بجوار جوار جوار جوا الجوار.

زر الذهاب إلى الأعلى