سأظل أقول “كان أبي”

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي
لم يخطر على بال أحدنا ليقول “هأنذا” ، بل نقولها وبزهوٍّ “كان أبي”.
ولربما زاحمْنا الأقران في مدارسنا وتقاسمْنا الثَّناء من بعض المدرسين ، ولكنه الثَّناء الذي يحمل مِمْحاته ليمسحنا كما يمسح خربشات الطباشير على السبورات ، ولم نتأفَّف بل نتقافز فرحاً بانتصار معادلة “كان أبي”
ولربما حَفلتْ سجلاتنا الوظيفية ببعض الدرجات المحفزة في التقييم السنوي أسوة بزملاء العمل ، إلا أنها غير ذات أثر في تفعيل “هأنذا” ، فما زلنا نشرئبّ بأعناقنا من أرضنا السفلى إلى علياء أبينا ليظل الفارق بذات المعدل بين الأرض والسماء.
وفي ثلاثينية الغياب ما زال والدنا ذلك الاسم المكتوب بالحرف الكبير أو ب”البنط العريض” بلغة صحافة الزمن الجميل ، فلن يحتاج القارئ إلى نظارة طبية ليتبينه ، بينما سيستعين بالمجهر ليفتش في الزحام عن أسمائنا الباهتة.
وأينما حللنا وارتحلنا لن نُتْعِب من نصادفه في التعريف بأنفسنا ، فنتعجَّل بذكْر اسم والدنا لتتلاقي الأجيال عليه ، بين جدٍّ رآه ، وأبٍ سمع به ، وابنٍ قرأ عنه.
ولن نختبر ذاكرات البلدان ونحن نمخر تعاريج حاراتها ، فجُدُرِ المقاصير مسكونة بروائح حوافر خيول والدنا العائد من رحلة مجد ، وزعفران الدروب مضبوطاً على نقْلات طرف عصاه وهو يسرع إلى سبلة المقصورة ليستقبل ضيوفا أسرجوا الصهوات فحجُّوا إلى كعبة علمه.
وبالأمس كنا في “بيت النبهية” أو “المزرع” بدعوة من العزيز إسحاق ، وكان معالي السيد سعود بن إبراهيم البوسعيدي ضيف المكان وعطر المناسبة.
وطوال الجلسة كان سيدنا الوالد هو الحاضر الذي يرمِّم الغياب ، وبسيرته افتتح السيد البوسعيدي المبجل الجلسة وما زالت في “حالة انعقاد دائم ” كما يقال بلغة المؤتمرات السياسية العربية.
وكما في جلسة بيت النبهية وفي غيره من المجالس ، يأتي ذكر القبائل العمانية على الألسن فيكون كتاب الوالد “إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان” المدخل والعنوان .
ولا يتم التطرق للتاريخ إلا وموسوعة الوالد “عمان عبر التاريخ” البوابة المشرعة على الأمس.
وإذا ما كان النقاش فِقْهيَّاً فكتاب “إرشاد الأنام” وغيره من مطولات الوالد وأنفاسه الزكية بين خير ما يتفقه بها في الدين.
وللوالد القِدْح المُعَلَّى في الأدب فقوافيه في ديوان “جوهر الكلم” وغيره من الكتب ممن تطير بها الركبان ساعة يكتبها في حصن الصلت بنخل لتقرأها برزة حصن نزوى.
ويترنم بها في الفيحاء لترددها صحار قبل زمن “السوشيال ميديا”.
وهو صاحب “الجواهر المنظمة في الخيل المسوَّمة” كأجمل ملحمة نثرية سرد فيها كاتبٌ صداقته مع الخيل ، ودعا فيها النوق لتدك الصخر عند مثارها.
وانفضَّ اللقاء بالوجيه الكريم السيد سعود بن إبراهيم ليبقى سطوع وجه الوالد فمشينا على هديه المضيئ في الطرقات من “بيت النبهية” حيث آخر “صوار” لفلج السَّمْدي في ترحُّله الطويل من العلاية إلى السفالة العالية.
مررنا في مسيرنا “بوقيف بَلْعق فبيت الغروب الذي يداهمه فلج بلفاعي مع الغروب ، فالجرجور فالمظلة فالصافية وانتهاء بالوقيف”.
وعند بقيع مضجعه المستظل وقفتُ و”فيصل ومحمد وبدر بن محمد” ومعنا فوارق ثلاثة أجيال ليظل “كان أبي” فوق فوارق الأجيال.
طأطأنا الرؤوس ونحن نسلِّم عليه بهيبة أنه بيننا ، بل هو على الدوام بيننا.
لقد جئنا مضجعه برائحة ورق كتبه في أيادينا علّنا نتقوَّى بها في التحدث إليه فلن نرتجّ كعادتنا ، ومع ذلك تلعثمنا لِيَسَّاقط أغلب ما ادخرناه لهذه اللحظة من كلام.
بعضنا يرجع الأمر للشوق والبعض يعزوه للبرد ، ونكاد نجمع أنها هيبته وخوفنا.
كان المضجع على حاله منذ آخر إضمامة زعفران تبعثرتْ هنا قبل ثلاثين عاما ، لولا نبتات ذات زهر أبيض نشرها الشتاء ، وجدر مالحة تعتصر أكبادها مثلنا.
حملنا خطواتنا المنزرعة في الزهر الأبيض وغادرنا ولم نغادر.
وفي الطريق إلى ظل “حضيب الليمون” في “المزرع” الذي عهدناه كانت النخيل ترافقنا وهي تترنّح بسعيفاتها كيتامى انطفأت عيونهم للتو.
وكانت السواقي المتعرجة تسفح عصارة المُقَل فبكتْ واستبكتْ فسَالتْ مآقينا ببكائية سيدي الهلال :
“أبتاه اليك مني تحياتي
ومن ربِّكَ العليّ الثناءُ

أنت علَّمْتني القوافي أحْدوها
ولولاكََ لم يجل الحداءُ

فعليك السلام والرحمة المزجاة
ما زانَ منكَ ذاك الرّواءُ

وعليك السلام من لدنِ
الله تعالى تحفّه الآلاءُ
—————————

زر الذهاب إلى الأعلى