أقصر حرب في التاريخ الحلقة (3)

“تداعيات الحرب على السيادة”

بقلم/ ناصر بن عبدالله الريامي

مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

كنت قد استعرضت في الحلقتين الماضيتين، من هذا الموضوع التاريخي المهم، عن السبب الذي أدى إلى اندلاع العدوان البريطاني على زنجبار، في سنة 1896م؛ وحصول السلطان خالد بن برغش على الحماية الألمانية، ومكوثه في دار السلام الألمانية آنئذٍ، إلى حين مغادرة الألمان دار السلام، بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى في سنة 1917م؛ واختيار السلطان خالد البقاء في دار السلام، بدلًا من السفر إلى بريلين، إعتقادًا منه بأن فترة الـ(21) عامًا قد أنست الإدارة الإنجليزية نزاعه على العرش، وتحدِّيه لإدارتها؛ إلا أن تقديره خاب للمرة الثانية.
فما أن خرج الألمان من دار السلام حتى وألقت القوات البريطانية القبض عليه، ونفته من منفى إلى آخر، إلى أن سمحت له، في سنة 1922م، بالإقامة في ممباسا فقط، بناءً على تشفع السير الوالي علي بن سالم البوسعيدي.
وإذا أردنا أن نتحدث عن تداعيات هذه “الحرب المزعومة” على السيادة في زنجبار، فيمكن القول أنه، وعلى الرغم من أن زنجبار كانت قد سقطت تحت الحماية البريطانية، قبل هذا العدوان بست سنوات، أي منذ عام 1890م؛ إلا أن هذا السقوط لم ينجُم عنه سحب الصلاحيات، أو فرض الأنظمةِ الإنجليزية بشكلٍ فج؛ وذلك امتدادًا لتقديرهم القديم للسيد سعيد بن سلطان (سلطان عمان وزنجبار)، وانعكاسات ذلك على من تعاقب من ذريته، على عرش زنجبار؛ فأبقت لهم الاحترام والتقدير، وبعضًا من أعمال السيادة.
استغلت الإدارة البريطانية، بدهائها المعهود، هذه الأوضاع السياسية في تحقيقِ مصالحها الاستعمارية، شيئًا فشيئًا، كما سنرى تاليًا.
فالتقهقر المهين الذي لاقاه العرب من حادثة “العدوان البريطاني على زنجبار”؛ علاوة على ما وقر في عقيدة من تعاقب على عرش زنجبار، من أن الإدارة البريطانية هي التي تملك زمام الحكم في زنجبار، وهي التي تملك بالتبعية تحديد رمز السلطنة، المتمثل في تعيين السلطان – وفقما جاء أساسًا في اتفاقية الحماية – دفع بالسلطان حمود بن محمد بن سعيد (1896-1902م) الذي عينته سُلطة الحماية بعد حادثة العدوان مباشرة، إلى الإحساس بالدين تجاه سلطة الحماية، وإلى السعي نحو إيجاد مناخ جيد من التفاهم معها. وعليه، فإن يقين السلطان بأنه ما وصل إلى العرش إلا بقوة الإنجليز وهدير قطعه الحربية؛ ورغبته الملحة في توريث ابنه الوحيد، السيد علي بن حمود عرش سلطنته، بدلاً من أخيه، السيد خالد بن محمد، الذي كان في حكم عميد الأسرة المالكة؛ دفعتاه إلى أن يكون مطواعًا للإدارة الإنجليزية، ومستعدًا دائمًا لتقديم التنازلات لإرضائها. استثمرت الإدارة هذا الوضع، وعملت في عهدِه على اعتمادِ قدر لا يُستهان به من القوانين والأنظمة التي تتفق ومصالحها الاستعمارية، المبنية على قاعدة “فرق تسد”. (راجع: الاسماعيلي، التكالب الإستعماري على زنجبار، ص ص 53 – 54).

فكما حدث في سلطنة السيد حمد بن ثويني (1893- 1896م)، فإن أول المصالح التي تحققت للإدارة الإنجليزية، كانت عن طريق مُساومة السلطان حمود بن محمد في الحكم. حدث هذا بأن عرضت عليه الإدارة الإنجليزية الحكم مقابل التوقيع على الشروط السبعة أدناه:
أولاً: أداء اليمين على كتابِ الله بأن يكون مُطيعًا لصاحبةِ الجلالة، ملكة بريطانيا، ولجميعِ ورثة عرشها من بعدها، في كافةِ الأمور المتعلقة بمحميةِ زنجبار.
ثانيًا: القبول بتلقي أوامر وتوجيهات القنصل البريطاني، في كل الأمور المتعلقة بالشؤون السياسية، وإدارة أعمال الحكومة في البلاد؛ مع الموافقة على تطبيق جميع المراسيم، والتشريعات، والاتفاقيات التي سيتم إصدارها وإبرامها مستقبلاً.
ثالثًا: ألا تتجاوز مخصصاته المالية عن عشرة آلاف ربية في الشهر؛ وأن يُعاد النظر في المنح والمخصصات التي تُدفع للعائلة المالكة، ولشيوخِ التمائم.
رابعًا: يمكن أن تخضع المخصصات أعلاه للتخفيض، كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
خامسًا: تخضع خزينة الدولة لتصرف الحكومة البريطانية؛ كما يتولى موظفو الحكومة البريطانية إدارة أعمال هذه الخزينة؛ ولا يجوز إقالتهم من مناصبهم إلا بموافقة القنصل البريطاني.
سادسًا: أن تؤول قوة الحرس السلطاني لقيادة الضباط الإنجليز.
سابعًا: ألا يبيع أو يُخرج شيئًا من أموال الحكومة، إلا بإذن مسبق من القنصل البريطاني.
جديرٌ بالذكر، فأن الشروط الخمسة الأولى هي ذاتها التي فرضت على السلطان حمد بن ثويني، من قبل؛ أما السلطان حمود بن محمد، فقد أضيف عليه الشرطين السادس والسابع. (المرجع السابق، ص ص 41 – 41، 50).
وبحسب تعبير الدكتور تركي: فإن السلطان حمود بن محمد “لم يكن أمامه إلا الإذعان لتوجيهات ومطالب الإدارة البريطانية، التي كان يرجع لها الفضل في تنصيبه، وكان الوقت قد حان لرد ذلك الجميل” (بنيان تركي، إلغاء الصفة القانونية للرق في زنجبار، ص 33). وعليه، فإن فترة حُكم السيد حمود اتسمت “بالطاعة التامة” للإدارة البريطانية (المرجع نفسه، ص 25).
استمرت سلطة الحماية في استغلال فترة حكم السيد حمود بن محمد، التي اتسمت بالطاعة المطلقة لها، حسب البيان المتقدم، لتعتمد المزيد من سياساتها الاستعمارية؛ حيث استوردت التشريع الجزائي، وكذا المدني من الهند، واعتمدتهما في فصل الخصومات ذات العلاقة؛ ولم تترك للمحاكم الشرعية سوى الفصلِ في منازعات الأحوال الشخصية. هذا، ولقد أضفوا على المحاكم المسميات البريطانية، مثل: محكمة زنجبار لصاحبة الجلالة ملكة بريطانيا، كما أن تعيين قضاة ومساعدِي قضاة هذه المحاكم كان يتم بمعرفةِ ملكة بريطانيا. وحول الطعن في الأحكام، يشار إلى أن أحكام محكمة زنجبار العليا كانت تطعن أمام محكمة بومباي العليا، باستثناء الحالة التي يكون فيها طرفا الدعوى من الإنجليز، حيث لم تكن ترسل القضية عندئذٍ إلى بومباي، وإنما تحكم من قبل ما عرف بمحكمة سلطة الحكم القضائي المنتدب (Court of Delegated Jurisdiction)، وقضاة هذه المحكمة كانوا من الإنجليز بطبيعة الحال.
يقال إن السلطان حمود تميز بقدر كبير من الاستنارة، كما أنه كان أكثر تقبلاً للحياةِ العصرية؛ فهو، كما يقول المغيري، في جُهينته التاريخية، أول من أكل على المائدة؛ كما اتخذ من بيت العجائب سكنًا له. ومما يذكر أيضًا، أن السلطان حمود بذل مساعيٍ حثيثة في أواخر عهده لوضع نظام ثابتٍ للخلافة على العرش (بالتوارث)، واجدًا من الاضطرابات والمنافسات على السيادة التي كانت تحدث بين أفراد الأسرة المالكة، في أعقاب وفاة السلاطين، دعمًا لمقترحه (جمال قاسم، دولة آل بوسعيد، ص 351). إلا أن الظاهر، من استقراء التاريخ، يشير إلى أن هذا المسعى لم يتماشَ مع المصالح الإنجليزية في اختيار من يحكم المحمية؛ إلا في عهد السلطان خليفة بن حارب، ومن أتى بعده، في نهايات عهد السلطنة في زنجبار.
بهذا، استجابت الإدارة الإنجليزية لرغبة السُّلطان حمود بعد وفاته في 18/7/1902م، في تنصيب ابنه السيد علي بن حمود عرش زنجبار؛ متجاوزة بذلك أخ السلطان المتوفى، عميد الأسرة المالكة، السيد خالد بن محمد، وأكثر المرشحين حظًا للحكم، جماهيريًا، وكذا في نطاق الأسرةِ المالكة الكريمة؛ لما عرف عنه من رجاحة العقل وحسن المنطق، وسعة الصدر؛ عدا عن عمرِه الذي كان يُؤهله للحُكم.
السيد علي بن حمود، وعلى الرغم من أنه لم يكن، وقتذاك، قد أكمَل السابعة عشر من العمر، فإن الإدارة البريطانية استحسنته لحكم المحمية؛ للأسباب الثلاثة أدناه:
أولاً: أنه كان قد تلقى تعليمه في مدرسة هارو Harrow الشهيرة، في إنجلترا لمدة ثلاثِ سنوات فاكتسب من خلالها الثقافة والطباع الإنجليزية الأرستقراطية. والحق، أنه يمكن القول بأن هذه المدرسة، هي مدرسة الصفوة الإنجليزية.
ثانيًا: أن السيد علي كان قد بدأ يمثل والده السلطان دبلوماسيًا في بعض المحافل الدولية كما حدث في مطلع عام 1902م، حينما ابتعث إلى إنجلترا لتمثيل السلطان في حفلِ تتويج الملك إدوارد السابع على عرش بريطانيا.
ثالثًا: حداثة سن السيد علي بن حمود (دون السنِ القانونية)، شكل مرتعًا خصبًا للإدارة الإنجليزية لتعيينِ وصي إنجليزي على العرش، وبالتالي إدارةِ شئون الدولة، واعتماد السياسات التي تروق لهم، دون تعقيب من السلطان، حسبما سنرى تاليًا.

  • للوقوف على مزيد من غطرسة الإدارة الإنجليزية، تابع في الحلقة القادمة ما فعلته مع السلطان علي بن حمود.
زر الذهاب إلى الأعلى