أقصر حرب في التاريخ – الحلقة الأخيرة

بقلم / ناصر بن عبدالله الريامي
مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

كنت قد استعرضت في الحلقات الثلاث المنصرمة موضوع “العدوان” البريطاني على زنجبار لسنة 1896م، وعن الذي حدث بعد حصول السلطان خالد بن برغش على الحماية الألمانية؛ ثم ما حدث للسلطان بعد هذه الحماية؛ انتهاءً بتداعيات “الحرب المزعومة” على السيادة.  أما في حلقة اليوم، فسنسلط مزيدًا من الأضواء على التداعيات المؤلمة، والتي تبرز بجلاء غطرسة الإدارة البريطانية على رمز السلطنة في زنجبار. 

فور وفاة السلطان حمود بن محمد، شعرت الإدارة الإنجليزية، أن الإعلان عن مخططها الاستعماري، بتنصيب السيد علي بن حمود على العرشِ، بدلًا من عمه، المحبوب شعبيًا، السيد خالد بن محمد، قد يرتب امتعاضًا وسخطًا شعبيين؛ سيما وأن المخطط الاستعماري لا يقف عند حد تجاوز الصغير للكبير في العرش فحسب؛ وإنما، في تجاوز الأسرة المالكة بأكملها فيمن ستعينه وصيًا على العرش أيضًا.  شعرت الإدارة الإنجليزية، وسط ذلك الموقف المشحون بكثير من التوتر والقلق، أن التاريخ قد يعيد نفسه، ويحدث اضطراب في الأمن، ناتج عن محاولة تدخل السيد خالد بن محمد لانتزاع السلطة عنوة، بحجة الإرادة الشعبية، مثلما فعل قبله السلطان خالد بن برغش.  هذا الوضع، دفع بسلطة “الحماية” إلى اتخاذ تدابير عسكرية، حفظًا للأمن والنظام العام؛ ومن ذلك، بأن استدعت فرقة من الأسطول البحري البريطاني، تحقيقًا للردع العام، والخاص أيضًا (الإسماعيلي، التكالب الاستعماري على زنجبار، ص 60).

ففي عصر اليوم التالي من وفاة السلطان حمود، أي في يوم 19/يوليو/1902م، وصلت المدمرة Tersichore ميناء زنجبار، تتبعها ست سفن حربية من الأسطول البحري البريطاني، لضمان فرض الإرادة الاستعمارية دونما معارضة.  حتى هذه اللحظة، لم تكن الإدارة الإنجليزية قد أعلنت بعد عن قرارها بتنصيب السيد علي بن حمود على العرش؛ وبطبيعة الحال، بتعيين الوزير الإنجليزي وصيًا على العرش.  جدير بالذكر، أن السيد علي بن حمود لم يكن، آنئذٍ، قد عاد بعد من رحلتِه الرسمية إلى إنجلترا.

فور وصول التعزيزات العسكرية المتقدمة، أبلغت الإدارة الإنجليزية السيد خالد بن محمد، بأنها لن تنصبه على الحكم، وإنما ستنصب ابن أخيه السيد علي بن حمود.  السيد خالد، وبحكم خصاله الحميدة التي اشتهر بها، تلقى الخبر بصدر واسع، وبروحٍ سمحة؛ حيث لم يبد أي اعتراضٍ أو احتجاجٍ على القرار، وإن كانت ردة فعله أشارت، بما لا يدع مجالًا للشك، إلى إحساسٍ عميقٍ بالأسى والإجحاف؛ حيث طلب من سلطة الاستعمار إعفاءه من حضور برزة السلطان الأسبوعية وكفى (المرجع السابق، ص 62).     

وصل السيد علي بن حمود ميناء زنجبار البحري بتاريخ 27 يوليو 1902م، على متن سفينة فرنسية، عائدًا من إنجلترا، وبوجود التعزيزات العسكرية المذكورة، لم يجرؤ أحد على فعل ما من شأنِه الإخلال بأمنِ البلاد، ولا حتى مجرد الاعتراض؛ كما أن السيد خالد بن محمد، ولكونه في حكم عميد الأسرة المالكة، كان من أوائل الناس وصولاً إلى القصر، لاستقبال السلطان الجديد وتهنئته على تسنمه عرش البلاد، وكذلك فعل أكابر رجالات الدولة، من عربٍ وأجانب (المرجع السابق، ص 62).   

وتستمر سلسلة سحب الصلاحيات

 حسب الإشارة المتقدمة، تم تعيين الوزير الأول، روجرز، وصيًا على العرش، ومارس مهامه هذه إلى أن بلغ السلطان، في يونيو من عام 1905م، الحادي والعشرين من عُمره.  خلال هذه الفترة، أخذت الإدارة الإنجليزية تدرب السلطان الشاب على مختلف تقاليد ومراسم الحياة الملكية؛ بينما انفرد الوصي على العرش، بجميع سلطات الحكم؛ فبادر بإجراء تعديل في أمرين أساسيين:

أولاً: جعل صرف مخصصات أفراد الأسرة المالكة الكريمة، تتم عن طريق الخزينة العامة مباشرة، بعد أن درجت العادة على صرفها بمعرفة السلطان لجماعته، يدًا بيد.

ثانيًا: كما سحب منه كذلك صلاحية توزيع إيرادات بيت المال على المساكين والفقراء، ليُصبح ذلك من اختصاص الحكومة.

كان لهذين التغييرين أثرًا بالغًا في التقليل من هيبة السلطان، والانتقاص من شأنه ومكانته أمام أفراد الأسرة المالكة، والمجتمع بشكلٍ عام (المرجع السابق، ص 63).

بلغ السلطان علي بن حمود السن القانونية للحكم (21 سنة)، في 7 يونيو 1905م، حيث استلم عندئذٍ سُلطاته الدستورية من الوصي على العرش.  ومما يذكر، فإن العلاقة بين السلطان الشاب والوصي، سادها قدر كبير من التوتر، بسبب معاملة الأخير غير اللائقة للسلطان؛ وهو الأمر الذي دفع بالسلطان إلى السفر إلى لندن، رغمًا عن معارضة الوصي، والمطالبة بتغييره، أو بتسليمه مقاليد الحكم قبل السن القانونية (جمال زكريا قاسم، دولة آل بوسعيد، ص ص  352-353).

على عكس تلك الصورة التي كانت الإدارة الإنجليزية قد رسمتها للسلطان الشاب، الذي لم يكن قد تجاوز السبعة عشر ربيعًا، عندما أجلسته على العرش؛ استبان لها لاحقًا أن السلطان علي بعيدًا كل البعد عن صفات الطاعة والخنوع،  كما اشتهر بوقفاتِه الشجاعة في مواجهتها؛ يحركه في ذلك صالح الأمة؛ فعمل على تأسيس أول مدرسة نظامية للبنين، رغم أنف سلطة الاستعمار عام 1908م؛ وهي خصال ما كانت لتروق للمستعمر؛ مما عنى حتمية إزالته عن العرش.

وينتهي عهد السلطان علي

الأخبار المتوارثة، جيلاً بعد جيل، تشير إلى أن السلطان علي بن حمود كان ذا بأسٍ شديدٍ على الإدارة الإنجليزية؛ لاستنكارِه حقيقةِ خُضوعِ بلاده لسلطةِ الاستعمار؛ فكان فظا في التعامل، ليس مع الموظفين الإنجليز العاديين فحسب، وإنما مع القنصل العام البريطاني أيضًا.  ما كان لسلطة الاستعمار أن تقبل هذا الوضع، بطبيعةِ الحال؛ فأجبرته على التنازل عن العرش. ولتغطية هذا التصرف المريب جماهيريًا؛ أصدرت بيانًا، أرجعت فيه هذا التنازل، إلى “الظروف الصحية” التي ألمت بالسُّلطان.  إلا أن العالمين بشخصية السلطان علي بن حمود القوية، والواقفة موقف النِد لسلطة الاستعمار؛ وكذا المدركين ببواطنِ السياسة البريطانية، فطنوا، منذ الوهلة الأولى، أن الأمر لا يخرج عن كونه سياسة من سياسات القهر والإجبار الاستعمارية، التي سوغت لها استبعاد السلطان علي؛ وتنصيب السيد خليفة بن حارب بن ثويني، زوج أخت السلطان علي بن حمود، سلطانًا على عرش زنجبار.  وللأمانة، فإن الثابت التاريخي يُشيرُ إلى أن السلطان علي لم تكن صحته على كلّ حال؛ إلا أنها لم تكن لتسوغ مطلقًا طلب التنازل المزعوم عن العرش.

عزلٌ وليس اعتزال

عدم تصديق العرب لاعتزال السلطان علي بن حمود لم يأتِ من فراغ، فالمعروف أن السلطان علي، وعلى الرغم من تأثره بمظاهر الحضارة الأوروبية الحديثة، وما بذله من جهدٍ جهيد لتطبيع بلاده ورعيته بتلك المظاهر؛ إلاّ أنه، في الوقت ذاته، أبدى تجاوبًا شديدًا مع حركة الجامعة الإسلامية التي أعلنها السلطان عبد الحميد الثاني، مما كان مثارًا لقلقِ سلطة الإدارة الإنجليزية، من احتمالية انتشار تلك الحركة في زنجبار.  زاد هذا القلق تعمقا، عندما لوحظ على السلطان علي مُؤازرته للسلطان عبد الحميد الثاني في نشر أفكار الجامعة الإسلامية في فرنسا؛ حيث أوفد إلى فرنسا ابن تاجر قُمري من أصلٍ عربي، يدعى سالم القمري، بالتنسيق مع المخابرات الفرنسية، لإصدار صحيفة إسلامية للدعاية لفكرة الجامعة.  ومما يذكر، أن الزيارة التي قام بها السلطان إلى الأستانة في عام 1907م، والاستقبال الحافل الذي لاقاه من السلطان عبد الحميد، والذي توج بتقليده بوسام العثماني الأعظم، وهو أعلى وسام في الدولة العثمانية، زاد من شكوك الإنجليز تجاه نوايا السلطان علي وتوجهاته.  ازداد هذا الوضع سوءًا في عام 1911م، إذ لم يلب الدعوة التي وجهت إليه لحضور حفل تتويج جورج الخامس ملكًا على بريطانيا، واكتفى بإيفاد صهره، السيد خليفة بن حارب، لينوب عنه في ذلك الاحتفال العظيم. 

فكرة تعرض السلطان علي للعزل، التي كانت مسيطرة على عقيدة عرب زنجبار، تأكد لنا صحتها، وذلك من خلال الاطلاع على وثيقة تاريخية نادرة، عبارة عن رسالة موجهة إلى السلطان علي بن حمود، من السير إدوارد جري، وزير المستعمرات البريطانية، بتاريخ 11/10/1911م، وردت فيها إشارة صريحة إلى السلطان تقضي بضرورة تقديم “استقالته”، وتتعهد الحكومة البريطانية في المقابل بدفع أجر سنوي له مقداره ألفي جنيه إسترليني، لإعاشته وكذا عائلته، شريطة تقديم تعهد بعدم العودة إلى سلطنة زنجبار، دونما الحصول على إذن مسبق من حكومة جلالة ملك بريطانيا.

يذكر، أن المناسبة الأليمة التي صدرت بموجبها هذه الرسالة القهرية، تكمن في الطلب الذي وجهه السلطان إلى الإدارة الإنجليزية، للحصول على إعانة مالية قدرها (5091) خمسة آلاف وواحد وتسعون جنيهًا لتسديد ديونه المتراكمة؛ فما كان من الأخيرة إلا وأن استثمرت الموقف لتحقيق مصالحها الاستعمارية، المتمثلة في عزل السلطان.  تظاهرت الإدارة بالغضب الشديد والحنق على ما بدر من عظمة السلطان، معتبرة إياه مبذرًا، لسبق مده بتسعة عشر ألف جنيه، لسد حاجةٍ مماثلة، قبل ذلك بعامين فقط، أي في عام 1909م.  ورد هذا المضمون في رد لاذعٍ وبغيض، حيث أشار فيها وزير المستعمرات البريطانية: “ولقد أنذرتم أنه في حال تعرضكم مستقبلاً لضائقة ماليةٍ مشابهة، ستضطر حكومة صاحب الجلالة إعادة النظر في علاقتكم بسلطة الحماية”.  وأردف في فقرة أخرى: “أشعر أن أي ترتيب مالي يمكن أن يقدم لسموكم لفك ديونكم، لن يضمن أي تغيير عقلاني في تصرفاتكم المالية مستقبلاً …” (سلطان زنجبار: مشاكل مالية، وثيقة رقم CAB 37/107/13، الأرشيف الوطني البريطاني). 

يمكن القول إجمالاً، أن الإدارة الإنجليزية توجست خيفة من ميل السلطان علي إلى الدولة العثمانية؛ فلم تكن لمشكلة الاستدانة، والحال كذلك، سوى القطرة التي أترعت الإناء.  يدعمنا في هذا، ما هو معروف من أن السلطان خليفة بن حارب – السلطان الذي حكم بعد السلطان علي – كان هو الآخر قد سقط في منزلق الاستدانة، ولمرات متعددة، حتى أن بعض ديونه انتقلت إلى ذمة ابنه السلطان عبد الله، ثم إلى حفيده السلطان جمشيد (سليمان شحبل، زنجبار: صعود وسقوط دولة مستقلة، ص ص 28 – 33).

ومما يُذكر، أن من أوائل إرهاصات الخلاف بين الطرفين – من منظور الجانب الإنجليزي – ظهرت في السنةِ التالية للوصاية على السلطان علي، أي في سنة 1903م، حيث سافر السلطان إلى مكة المكرمة، قاصدًا أداء فريضة الحج، فاستقبله حاكم الحجاز استقبالاً عظيمًا، وأطلقت المدفعية سبعًا وعشرين طلقة تحية لعظمته عند نزوله ميناء جدة؛ وكان طوال فترة أداء المناسك ضيفًا مكرمًا للشريف الأكبر لمكة المكرمة.  وعليه، فقد رأت الإدارة الإنجليزية، أن المراسم التي أتحف بها السلطان في هذه الزيارة، جعلته يستشعر العظمة، وبدأ فور عودته إلى زنجبار يتغير تجاه الوصي على العرش، من حيث عدم الانصياع لتوجيهاته (الإسماعيلي، ص 64).   

وحول تنصيب السيد خليفة بن حارب سلطانًا على عرش زنجبار، يُلاحظ أن الإدارة الإنجليزية قررت للمرةِ الثانية تجاوز عميد الأسرة المالكة وحكيمها السيد خالد بن محمد بن سعيد بن سلطان؛ ولتهدئة سخط الشعب المحب للسيد خالد، أصدرت بيانًا، نشر في الجريدة الرسمية، بتاريخ 9 ديسمبر 1911م، زعمت فيه زورًا وبهتانًا – كما هي عادتها – أنها عرضت العرش على السيد خالد بن محمد، إلا أنه اعتذر لسوء حالته الصحية (المغيري، جهينة التاريخ، ص 427؛ أنظر أيضًا الإشهار الذي أصدره القنصل العام البريطاني، في كتاب زنجبار: شخصيات وأحداث).

السلطان حمود بن محمد آل سعيد (1896 – 1902م)

السلطان علي بن حمود آل سعيد، متأثراً بسلاطين الدولة العثمانية في لباسهم

(1902 – 1911)

السلطان خليفة بن حارب آل سعيد (1911 – 1960م)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى