بورصـــــة الرياضــــــــــة

بقلم/ د. اسحاق بن أحمد البلوشي
يذكر أن جحا أرسله أبوه ليشتري له رأساً مشوياً فاشتراها وجلس في الطريق يأكل منها، فأكل عينيه وأذنيه ولسانه ودماغه وحمل الباقي إلى أبيه فقال له أبوه: ويحك ما هذا؟ فقال هو الرأس الذي طلبته قال: فأين عيناه؟ قال كان أعمى قال: أين أذناه؟ قال: كان أصم قال فأين لسانه؟ قال: كان أخرس قال: فأين دماغه؟ قال: كان أقرع قال: ويحك رده وخذ بدله قال: باعه صاحبه بالبراءة من كل عيب.
بينما أنا أسرح بالفكر في قصة جحا وما دار بينه وبين أبيه في حادثة الرأس المشوية، تزامن طرف منه على أخبار الرياضة وأحوال الرياضيين وما يجري في بورصة المواهب والموهوبين اليوم من البيع والشراء للرؤوس الكبيرة الموهوبة، وهو موضوع طالما نازعتني إليه خواطري وأفكاري لما شعرت به من افتقار هذه السوق الى الحكمة والمنطق وإلى شيء من الهدوء والاستقرار، فلا يوجد للبيع فيه ملامح واضحة ولا للشراء أسعار ثابتة، ولا يوجد فيه ما يحدد فصول المقايضة والتبادل وما يقيّم ويراقب جودة المتبادل.
والجدير بالذكر هنا أنني وجدت أيضا في زوايا الفكر شيئاً من الاحساس والافتقار الشديد لمكتبة الرياضة الى بحث وافٍ وجهد كافٍ يناقش هذه المسائل ويضعها موضع النقد والتحليل، ويقدم فيها شيئاً من الاسباب والفرضيات ويستخلص شيئا من النتائج والحلول ولو استعانوا بشيءٍ من الدراسات والأدبيات السابقه وقصص شراء الرؤوس الكبيرة فقد سبقهم في ذلك جحا.
أن نجد المليارات تكون سبباً في صناعة المواهب فلا عجب لكن أن تكون هذه المليارات سبباً في موتها فهو العجب كل العجب، عندما يتدخل المال بهمجيته في مجتمع المواهب يكون ذلك سبباً في انتزاعها من مكانها ووضعها موضعاً تموت فيه ولا تجد الحياة، وعندما يطغى الطمع على أصحاب المواهب تضيع مواهبهم وتكون أعينهم في غطاء عن الحقيقة ولا يرون الا كما يرى من فقد بصره، ويكون ذلك سبباً في ضياعها وجرماً في حقها فهل أفسدت مليارات الشرق متعة الرياضة ام هو طمع الغرب؟
إن ما يجري في بورصة الرياضة كشف شيئاً من الوجه الآخر لهؤلاء الموهوبين وفضح شيئاً من سخف عقولهم وسذاجة فكرهم الذي لا يتجاوز سوى جمع المال لأيام ليست أيامهم وبناء القصور والدور لأوقات ليست أوقاتهم، وبالرغم مما يملك هؤلاء من موهبة وما يملكون من سحر الا أنهم لم يدركوا يوما ما تحتاجه مواهبهم من متطلبات الحياة وما تحتاجه مواهبهم من مقومات البقاء لتحيى حياة المواهب فلا تهرم ولا تموت إلا عندما تموت.
وفي الجانب الآخر من البورصة انكشف ايضاً شيئٌ من العجز الذي أصاب فكر المؤسسات وإداراتها وفقدانها أدنى حدود المنطق في موائمة واتساق الخطط والعمليات مع الرؤى والأهداف التي لا ينفك جوهرها الحقيقي وأساس وجودها عن اكتشاف وانتقاء المواهب وصناعتها الصناعة الحقيقية التي تعكس الاتزان وتعكس ما تحمل في طياتها من معاني المواهب وما تعيش فيه من الولاء والانتماء.
عندما يتجاوز الحد في التقدير والتثمين تتضخم الأشياء وتنتفخ انتفاخاً يثقلها ويخلق شيئا من عدم الاتزان في معانيها وفي قيمتها وقيمها فلا يكون لها من المذاق الا المر، ولا يكون لها من الصفات الا القبح، فما أن أصبح هذا واقعاً ملموساً واشكالاً واضحةً برزت أسئلة المقالات تبحث عن اجابات لها وتتساءل لماذا أصبحت مليارات الشرق في حالة التضخم المستمر ولا تساوي قيمتها الحقيقية في أسواق الموهبين؟ لماذا تكون قيمة الموهبة التي تباع على الشرق أضعاف أضعاف قيمتها عندما تكون في الغرب؟ لماذا يدفع المليار لتحقيق ما قيمته ألف وما قيمة الألف الذي حققه المليار؟! لماذا لا تستغل هذه المليارات في بناء منظومات متكاملة الأجزاء ومتسقة الفصول لاكتشاف وانتقاء المواهب وصناعتها بدلاً من استيرادها بالمليارات بعدما استهلكت وبدا انتهاء صلاحيتها ؟ لماذا استطاع الغرب اكتشاف المواهب وصناعتها بينما عجز الشرق؟
المقال يرى أن المليارات هي هي في الغرب وفي الشرق لم تختلف، والمقام وجد أن العقول هي هي في الغرب وفي الشرق لم تفترق، لكنها إدارة الخطط والسياسات والفكر والأفكار فقد اختلفت هناك وتخلفت هنا وتجددت هناك وتقادمت هنا، ولا يرى المقال الا أن كثرة المليارات في الشرق أتخمته فلم يستطع أن يفكر أو يتفكر ولا استطاع أن يطور أو يتطور فاشترى كل شيءٍ للانسان وترك الانسان.
اذا ما أراد الشرق أن يبارح مكانه في الرياضة وأخواتها عليه أن يتخلص أولاً من التخمة التي أصابته ولو استدعى الأمر أن يصوم قليلا عن شراء الرؤوس الكبيرة التي أكل جحا أطرافها وأجزاءها ولم يبق منها سوى القليل الذي لا يشبع نهماً ولا يروي صاديا، واذا ما أراد الشرق انتقاء المواهب وصناعتها عليه أن يُخضع المليارات الكثيرة وامكاناته البشرية العظيمة ويجبرها اجباراً أن تكون على طاولة البحث والدراسات ويرحب بالأفكار وأسئلة الباحثين ويناقشها فهي وحدها تستطيع أن تتلمس خيوط البداية وترسم فصول النهاية، وهي وحدها من تستطيع أن تنتج لهم يوما ما عشرات من الرونالدوا الفاخرة وتلد يوماً ما عشرات من النيمارات الضخمة وربما مئات من الرؤوس الكبيرة كاملة الأجزاء التي لم يعبث بها جحا ورفاقه.





