محمد أمين عبدالله العائد إلى التَّكْيَة متأبِّطاً مورد البعلبكِّي وقاموس أكسفورد

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

يعود إلينا الأستاذ محمد أمين
عبدالله بعد غياب ، متأبطاً مورد البعلبكِّي ومُنْجِدَ لويس معروف وقاموس أكسفورد ولسان العرب لابن منظور
يعود إلينا ابن “التُّكْية” بعد غربة مترعة بأكواب المقهى الكراتشي “شيزان” ولسعة البُنِّ على أنغام “الجاز” في “جروبي” وهجين القهوة “المحوِّجة” مع فطيرة الكريز في مقهى “لاباس” وشلة الأيام الخوالي من “ذويقة” القهوة في “هيلتون النيل” وعبق المشموم في “استكانات” شاي “مقهى حاجي” في باب البحرين ، ونزق الثوار في بلُّورات رغوة الأكواب بمقاهي شارع الحمراء.
يعود إلينا بهمَّة الدكتور محمد بن حمد العريمي الذي صحبه مذ خرج من “التَّكْيَة” المتوسدة سمرة جبال مسقط وحتى العودة الأخيرة إلى مسقط بأنفاس شربتْ حبْرَ السنين حتى تصعَّدت الزفرات للسماء.
والمبهج في هذه العودة أنه متى وقف هذا الشامخ تحت ظلة بيوت التكية البيضاء طاولته كتبه المترجمة.
وأينما حل وارتحل كانت سيرته العملاقة تفتح الحديث عن الترجمة وعن حضور هذا المترجم العماني العملاق كأكثر من جعلوا كتب الانجليز تتحدث العربية.
أما الموجع في الرجعة فلأنها الخاتمة لرحلة طويلة لا سَفَر بعدها لعاشق الأسفار.
ولا دوران لمفتاح باب الشقة رقم ٣٦ يعمارة الزهراء في ٢٦ شارع الشيخ ريحان بباب اللوق بعد أن غير الزمان “كالون” قِفْل الباب.
ولا نكات مصرية تتخلَّق من سخريته المبهجة مع ندامى مكتبه القديم في ٢٦ شارع قصر النيل بوسط البلد ثم ٢٩ شارع حسن صبري بالزمالك بعد أن شرُقَتْ النّكات بالضحكات.
ويبدو أن الأستاذ الدكتور محمد بن حمد العريمي في تتبعه لسيرة رجل عشق عمان حتى النخاع ، والتحم بتاريخها حتى العظم ، وقاده الشغف بأمسها حد الاستقتال في الإحاطة بجميع ما كتبه الآخرون ، قد استعان بمواريث القيافة في التراث العماني وبأدوات الأثري في استنطاق اللُّقى إلى جانب يراع الإعلامي وكاميرته.
لقد أراد التوسع في الحديث ليشمل النبش في الأمس كله كما عاشه “أبو جبير”.
والمستخلص من حصاد السنوات السبعين لأبي جبير أنَّ هذا القارئ النَّهم لثمرات المطابع باللغتين العربية والانجليزية بمقدوره أن يكون من أغزر المؤلفين لا من أغزر المترجمين لمؤلفات الآخرين.
لكن أبا جبير اختار ألَّا يتصدر اسمه الأغلفة بل ليتكرر مع الأسماء ، فيجاور أسماء “روبرت جيران لاندن” و”السير أرنولدت ويلسون” و”ويندل فيليبس” و”هرمان فريدريك أيلتس” و”جون بي كيلي” وس.ب.مايلز” و”أحمد حمود المعمري” و”جي سي ويلكنسون” و”الدكتور هاريسون” و”كانايا لال جابا” و”القاضي الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي” و”روبين بيدويل” و”د. روس آلاستوس” و”سي أن داس” و”ديفيد هيرست” و”جورج دوجلاس” و”كي جي بنيلون” وأ”حمد مصطفى أبو حاكمة” و”راندولف فينيس”.
وغيرها من الأسماء الباذخة التي أحصاها الدكتور محمد العريمي فتلألأت على أكثر من ثلاثين غلافا.
وكان من السهل على الثلاثين غلافا أن تتضاعف لو اقتصرت مهمة الاستاذ محمد أمين عبدالله على ترجمته للكتب فقط.
لكن محاور سيرته تنازعتها اشتغالاته السياسية التي استنزفتْ عمره فاقتطعت الوقت والجهد.
وفي تتبُّع الدكتور العريمي لحياة أبي جبير القامة والقيمة كما تجلَّى في إصدارهِ القيِّمِ الذي حمل عنوان “محمد أمين عبدالله حياته وإنجازاته” يلتقي قلم العريمي أبا جبير في شبه الجزيرة الهندية كمجاهد بصوته في لملمة البعثرة السياسية لدرة التاج البريطاني. وكان من موقع عمله في الإعلام الباكستاني هو اللسان العربي لباكستان الاسلامية.
وكان إسهامه لافتاً في حشد جهد عربي إسلامي لصون استحقاقات باكستان بجناحيها الشرقي والغربي من تركة الدولة البريطانية المنسحبة.
وفي مرحلة تالية كان أبو جبير في كنانة العرب كإعلامي في مكتب دولة المنفى لإمامة عمان إلى جانب تكليفات دولة المنفى له في أن يمثلها في العديد من المحافل الدولية.
وقد ترأس الأستاذ محمد أمين تحرير مجلة صوت عمان ، وأشرف على إصدارات دولة المنفى من كتب ونشرات.
وفي السنة الرابعة لنهضة عمان التحق الأستاذ محمد أمين بمن سبقه من رفاق النضال والغربة فعاد عام ١٩٧٤م. إلى الوطن ليعمل بالإعلام العماني فيسيل حبر قلمه على صفحات جريدة عمان.
ثم ينتقل لوزارة التراث القومي والثقافة حيث عشقه الحقيقي كمترجم ، وحيث صديق عمره هناك سمو السيد فيصل بن علي وزميله السابق في هيئة تحرير مجلة صوت عمان ورفيقه في الاغتراب.
وطوال ١٨٥ صفحة من القطع الكبير أدهشنا القلم الجميل للأستاذ الدكتور محمد بن حمد العريمي في التطواف بسيرة عملاق عماني يضيفه إلى من سبق من القامات التي استدعاها من عتمة النسيان.
وجاء كتابه “محمد أمين عبدالله حياته وإنجازاته” مدعماً بعشرات الصور والوثائق التي رفعتْ من قيمة الكتاب الذي توزع على خمسة فصول تناولت المحطات في حياة أبي جبير كمثقف وكمناضل ، لينهيه بالحديث عن أسرته وباستمطار شهادات مؤثرة بتوقيعات الذين عرفوه.
وقد كان لي شرف اللقاء بأبي جبير في مسقط مع بداية التحاقه بالإعلام.
وتكرر اللقاء في القاهرة وهو في الهزيع الأخير ، حيث كنتُ ضمن مجموعة من الزملاء في الوفد الإعلامي المرافق للسلطان الخالد الذكر قابوس بن سعيد أثناء زيارته لمصر ، فرأوا القيام بزيارته بعد توارد أنباء مقلقة عن صحته.
يومها التقيناه بعمارة الزهراء بشارع الشيخ ريحان بباب اللوق بالقاهرة.
لكن الزمن والمرض سبقانا إليه ليعششا في مستقره المصري.
وأتذكَّر أن نظرة عابرة فلتت مني إلى ملامحه فهالني التعب في عينيه.
لقد صغُرَتْ العينان بعد احتراب طويل مع جيوش اللغة ذات الأصول الجرمانية.
وطالعتُ القلم المتكاسل على طاولته وقد تخثَّر فيه المداد بعد ما اشتعل طويلا مع الانجليزية لغة الاستعمار والكومنولث و”البزنس” و”الحمرين” الذين جاءوا إلى شرقنا كورثة لعابثين سبقوهم ، ومستعمرين عشقوا النخل والعقال وخيمة الشعر والقمر الذي يطل من وتر ربابة ورائحة القهوة في دفء ليالي الشتاء.
وبينما تنتهي السيرة بعودة أبي جبير للمشيمة الأولى وللتَّكْية ببيوتها البيضاء كالياسمين ، ولرائحة مقاهي “سوق برَّع” فإن مطارات العالم ستظل تستعيد مسافراً مرَّ من هنا.
وتستذكر مثقفا عمانيا كبيراً تناول قهوته في “شيزان”.
ووضع تحت لسانه مكعبا من السكر وهو يحتسى “استكانة” شاي في مقهى حاجي بباب البحرين.
وتأبَّطَ نسخة من كتاب تاريخي عن الخليج تخلَّص منه طالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة فألقَتْه الأقدار في بسطة بسور الأزبكية.
وستتوجع مقاهي شارع الحمراء على عماني كان ينزوي في ركنه الممرد بالقهوة اللبنانية البيضاء ليخلو مع مفردات غائرة في نسخة عتيقة لمورد البعلبكي.
وإذا كان شيخنا الأديب الكبير أحمد الفلاحي قد ترحَّم يوما على “رجل رحل دون أن يحس به أحد” ، فإن كتاب أستاذنا الدكتور محمد بن حمد العريمي التفاتة نبيلة تحاط بنفس الرجل الذي افتقده الجميع.
رحم الله أبا جبير.
وعسى أن يشفع له حبه لعمان كما عبَّر عنه في روائعه ، فحب الوطن من الإيمان.
———————
مسقط في ٣ يناير ٢٠٢٥م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى