خليجي 26 بين التأسيس والتجنيس
د. إسحاق بن أحمد البلوشي
قبيل انطلاق خليجي 26 في وطن النهار العاصمة الكويتية الجميلة، التي أسرت قلوب الجميع بطيبتها وكرم أخلاقها، انتهيت من نشر مقالتي بعنوان (بورصة الرياضة) التي ناقشت فيها صناعة المواهب والموهوبين، وأهمية انتاجها انتاجاً وطنياً خالصاً، يضمن صلاحها ويضمن أثرها الجميل، بدلاً من استيرادها جاهزةً معلبةً لا يُضمن ضررها وأثرها القبيح، وكأن المقال رأى شيئاً من عالم الغيب وزمنه، وما سيجري في تفاصيل بطولة الخليج من استيراد المواهب والموهوبين، وما سيكون من صراع ونزاع بين الماضي وروعة التأسيس وبين الواقع وشؤم التجنيس.
لم يرتبط الانسان منذ الأزل وينتمي الى شىء أكثر ارتباطاً وانتماءً اليه من المكان الذي ولد وعاش فيه لذلك أطلق علية اسم وطن، فهو الانتماء الحقيقي الذي يولد معه الانسان ويتوارثه ، ولا تستطيع جميع قوى الأرض أن تزعزع ذلك الانتماء لما يحمل في وجدانه من معانٍ وطنية، وما تتجسد في روحه من أحاسيس وجودية، فهي حالة الشعور الانساني التي يتعلق بها في جميع أحوالة وأفعالة، وفي جميع أوقاته ولحظاته، وهي حالة الاعتزاز الأبدي والهيبة الطاغية التي يفخر بها ما دام في روحة رمق من حياة وفي قلبه لحظة من أمل.
وما اذ يحدد المقال ويسلِّم بعلاقة القرب القوية بين الانسان وأرضه ولغته ووطنه، ويصفها وكأنها عملية تشريح للقلب يغرس في جنبه الأيمن معنى الانتماء، ويغرس في جنبه الأيسر معنى الولاء، فتجتمع فيه وتتصل وتخالط دمه ولحمه ولا تنفصل، تتساءل الرياضة هل يحمل التجنيس في طياته وجوهره شيئا من هذه المعاني؟ وتتساءل أيضا هل يعلم التجنيس شيئاً من أثر الرياضة وما حددته في علاقتها مع الانسان وسبب وجودها؟ وهل يعلم التجنيس بأن الرياضة للانسان فنٌ ومتعه، وهي للأوطان تنافس شرفٍ وسمعه؟ وهل يعلم التجنيس أن الرياضة إذ وهبت نفسها للجميع رسمت في الوقت ذاته حدود العلاقة بينها وبين المحبين لها والمتنافسين عليها؟ وما أن الرياضة اذ طرحت كل هذه الأسئلة علمت في الوقت ذاته أن التجنيس لا يحمل أيًا من هذه المعاني والقيم، تساءَلت هنا مجددًا مخاطبةً أهل الخليج.
لماذا تشوه منظر التأسيس وذكرياته العظيمه بالتجنيس وصورته القبيحة؟ لماذا أصبحت الادارات الرياضبة تتسابق الى رمي مخلفات التجنيس على منتخباتها العظيمة التي طالما جاءت بالانجاز والألقاب لها؟ لماذا لا يسعى هؤلاء في المحافظة على صورة منتخباتها صافية نقية غير ملطخة بانتماءات التجنيس وثقافته؟ ألم تكن هذه المنتخبات يوماً ما تتجاوز الصغار وتقارع الكبار؟ ألم تكن هذه المنتخبات حيةً قويةً بأبنائها وبعروبتهم وأصلهم دون اختلاط التجنيس فيها؟ ما الذي جاد به التجنيس على منتخبات الخليج وما تحمله من رايات وأعلام وما حملت من عز للأوطان سوى تشويه صورتها وانتهاك معناها؟ ألم تتساءل الادارات الرياضية عن حجم الانتماء والولاء الذي يحرك أرواح المجنسين تجاه قضاياهم الرياضية الوطنية؟ الم تتساءل هذه الادارات عن شعور لحظات التتويج وانجازات الكؤوس عندما رفعتها أيادي المجنسين؟ لو استطرد المقال في طرح الاستفهامات حول ذلك ما أبقي ولو استمر ما أظنه انتهى، لكنها اختصار المعاني والآهات يبعثها لعلها تصادف سمعاً منصفاً وتلاقي قلباً متذكرًا.
عندما جاءت أناشيد التأسيس وصدحت (أنا الخليجي أنا الخليجي، وافتخر إني خليجي)، ثم تلتها أخواتها من الاناشيد والأهازيج العظيمة والكلمات التي لا تزال مطبوعة في ذاكرة المواطن خليجي، والتي جسدت اسم الخليج ومعناه في اذهانهم وعقولهم، وتزينت المنتخبات الخليجية بألوانها وتوشحت بأعلام بلدانها، وتجملت ساحات الملاعب واهتزت فرحاً وعزاً بأبنائها وكأنه اتصال الروح بالروح، وتعارف الوجدان بالوجدان، وكأنها تقول للعالم هؤلاء شبابي ورجالي فأروني أنتم شبابكم ورجالكم. جاء التجنيس متعدياً على معاني الرياضة والفن ظالما لأبناء الخليج وأهله، مشوهاً وهادماً لما ردده الخليجيون من أهازيج وأناشيد طوال عقود من الزمن، وما مثل الذين سعوا الى التجنيس الا كمثل الضمآن الذي ظن في السراب خيرا كثيرا، حتى اذا دنى منه واقترب لم يجد شيئا.
لم أجد منظرًا مستفزًا لكأس الخليج الغالية، ولفظا ملوثاً متعدياً على الأفهام والأسماع، الا عندما ينادي المعلقون الرياضيون في بداية كل لقاء بأسماء المشاركين من لاعبي المنتخبات الخليجية، ومن بين أسمائهم كارلوس ومن بين ألقابهم مارلوس، ولم أجد صورة مؤلمة مرت على أذهان الخليجيين من صورة الكأس الغالية محمولة على رأس كارلوس وفي أحضان مارلوس، عندما نتألم أنا وأمثالي من الخليجين لمثل هذه الصور ليس لشىء، انما لحرصنا أشد الحرص على هذه الكأس لأنها كانت ولا تزال شيئا من أساس وحدة الخليج وأهله، ولا نرضى الا أن يكون هذا الأساس متينا ثابتا لا يزعزعه شيىء ولا يثلمه شىء وثقافة التجنيس لا تبالي ولا تكترث ولو أصبح الخليج ورياضته كبيوت العنكبوت وهوانها.
تجنيس اسم لو حسبناه بريئًا لكن ليس في أفعاله ما يشبه البراءة، ولو أحسنّا الظن فيه لكن ليس في فعله ما يشبه الظن الحسن، ولا يعدو فعله من جنَّس ويُجنِّس تجنيسا فهو في جميع الأحوال فاعلٌ مشين، مُجانس للاشياء يسعى لمشاكلتها مذنب وفاضح لنفسه، فمن معانيه اذا جنَّس الشىء أي أنسبه الى غير أصله وماثله بهم ولو لم يكونوا من أصله، ولا يتعدى فعله الا الى ظلم الأول وتشويه الآخر. فعجبت لمن لا يريد أن يفهم ماذا يقصد بالتجنيس وما يحمله من معانٍ وأفعال، رغم أنه في ذاته شارح لذاته وفي معناه اتهام لمعناه، ولو علموا أن في أصله عبودية وذل وفي جوهره فحش وظلم، فهو كذلك خلق وكذلك يبقى، ليس فيه من الاصلاح شيىء وليس منه في الاصلاح شيء، انما هو ذنب وصغيره ومعصية وكبيرة فلو غفرت الأولى ليس في الثانية من مغفرة ولا توبة.
لست أنكر التجديد والتغيير، ولست من الذين لا يستشرفون المستقبل وتغيراته، ويأخذون الحذَر ويخشون الغدْر، إنما أنكر شيئا واحدًا وهو أن تسلب مكتسبات الشعوب الأوطان وأن يزين القبيح فيظهر، ويغطى الجميل ويحجر، وأن يفشل القائمون على صناعة المواهب وادارة الموهوبين، ولا يريدون الا أن يستعينوا بالمستورد الجاهز والمعلب الفاسد، ثم يقال ليس عندنا من المواهب ما يسد النقص ويكمل العجز، وأن يقال لقد جئنا بالجديد ولو كان من مستودعات التجنيس، وتركنا القديم ولو كان من ذاكرة التأسيس.
لكن هل تفكر هؤلاء يومًا اذا فتشت العقول عن تاريخ التأسيس وما تشوه منه؟ وهل تذكر هؤلاء يومًا اذا بحثت الأجيال ولو من بين القبور عن تاريخ التجنيس وما تشكل منه؟ فأي ذلك خيرٌ لنا ولهم أن نعتد بالتأسيس ومكتسباته ونجمع ما فيه مع واقع الحال وضروراته ونحفظه وندفع عنه أعدائه، ونجعل تجديده واستقباله كاستقبال العيد في أثوابه وألوانه وما يحمل من معاني الجمال والكمال، أم ندعو التجنيس لحضور الاحتفالات والمجنسين لرفع الأعلام والكؤوس وحمل والرايات، وما أن يكون ذلك سيرى أصحابه يومئذ ما كان وهمًا فاعتنقوه وما كان حقيقةً قتركوه.
وفي الأخير تتوسل غيرة المقال أصحاب الحل والعقد في مدن الخليج، وتستنجد كلماته أهل الحكمة والنظر في عواصمه الجميلة، بأن يضعوا ثقافة التجنيس على ميزان النقد وبين كفتي الانتماء والولاء، وأن يضعوها على طاولة البحث، ويعيدوا النظر في نزاع السنين بين التأسيس والتجنيس لعله يكون خيرًا للحاضر واصلاحًا للمستقبل، وأن ينظروا الى كلمة (تجنيس) ويتفحصوها جيدا، فوالله اني أرى عدواتها في جنسها، ووالله اني أراها دالة على ظلمها وجورها.