على ضفاف درينا… حيث تلتقي الرواية بالحياة

بقلم: سيلينا السعيد
عند نهر درينا، حيث ينساب الماء كقصيدة أزلية، يقف الجسر العظيم، لا كحجارةٍ صامتة بل كذاكرةٍ مفتوحة على أربعة قرون من الحكايات، والألم، والمقاومة. هناك، في رواية “جسر على نهر درينا” لإيفو أندريتش، يصبح الجسر أكثر من مجرد بناء حجري، يصبح قلبًا ينبض بتاريخ البوسنة، وحلمًا معلّقًا بين الضفتين.
الرواية تبدأ من قصة فقد، من وجع طفل صربي اسمه بوغدان، اختُطف من حضن أمه ضمن نظام الدوشيرمة العثماني، حيث كان يتم تجنيد الأطفال المسيحيين وتحويلهم إلى جنودٍ للسلطنة. يكبر الطفل بعيدًا عن أرضه وأهله، ويتحول إلى الصدر الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش، رجلٌ وصل إلى قمة السلطة، لكنه لم ينسَ لحظة الفراق الأولى، لم ينسَ أمه وهي تشده من يديه بينما يُنتزع منها للأبد.
ربما أراد محمد باشا أن يكفّر عن جراحه الخاصة، فبنى الجسر ليكون رمزًا للوصل، رمزًا للتغلب على الفراق. لكن التاريخ لا يرحم، والجسر الذي صُمم ليكون صلة، كان أيضًا شاهدًا على القسوة والفجائع.
الجسر كمرآة للحياة والموت
لم يكن الجسر مجرد بناء صامت. كان مسرحًا لكل شيء:
• شهد على ولادات الأطفال، ووداع الأحبة.
• رأى دماء الأبرياء تسيل على حجارته، ورأى أيضًا الحب ينبت خجولًا في زواياه المظلمة.
• مرّ عليه الحكام، والجنود، والباعة، والعشاق، والعابرون الذين تركوا بصماتهم في صمت الحجارة.
لكن هذا الصرح العظيم لم يُبنَ بلا ثمن. فقد كان هناك حكاية أسطورية ترافق عملية البناء، حكاية عن جنية الماء التي كانت تفسد أساسات الجسر كل ليلة. قيل إن البنائين لم يجدوا حلاً سوى تقديم التضحية؛ فأخذوا رضيعين صغيرين ودفنوهما في أساسات الجسر ليهدأ الماء وتُبنى الحجارة. حكاية تلبّست الواقع، وأصبحت جزءًا من الموروث الشعبي، وكأنها تقول: “لا شيء يبنى دون دماء، ولا جسر يعبر دون تضحية”.
الجسر كصورة للتحولات التاريخية
مرّت على الجسر أزمنة مختلفة، كل زمن ترك عليه أثرًا كندبة في الجسد.
• العهد العثماني: حيث كان الجسر رمزًا للسلطة العثمانية، وشاهدًا على قمع المتمردين، مثل قصة الفلاح الصربي راديساف، الذي قُتل بالخازوق بعد أن تمرّد على الضرائب الظالمة. لكنه، بمأساته، تحول إلى رمز للمقاومة الشعبية.
• الاحتلال النمساوي المجري: دخلت فيشيغراد في عصر جديد، حيث صارت القهوة العثمانية تُستبدل بالمقاهي الأوروبية، والبسطاء يتأملون التغير بعين الريبة، فيما تقتحم الحداثة شوارع المدينة وتبدّل وجهها.
• الحرب العالمية الأولى: تفجرت التوترات القومية، وصار الجسر هدفًا للحقد والرغبة في تدمير رموز الماضي. في لحظة مأساوية، ينفجر الجسر في خضم الحرب، وكأن التاريخ يعلن نهاية زمن وبداية آخر، لكنّ الحجارة وإن سقطت، بقيت الذاكرة حيّة.
الأسطورة التي لا تموت
في كل زاوية من زوايا الجسر كانت هناك حكاية.
• هناك عجوز كان يجلس كل يوم تحت شجرة قريبة، يروي لأحفاده عن أيام الجسر العظيمة.
• هناك صبية تركت قلبها مع شابٍ رحل إلى الحرب، وبقيت تنتظر عند النهر بلا نهاية.
• وهناك تجار عبروا الجسر حاملين بضائعهم، وأحلامهم، وآمالهم، ليغيبوا خلف المدى.
الجسر لم يكن حجرًا فقط، بل كان جسدًا حيًّا يحتضن حياة بأكملها. وكلما مرّ شخص فوقه، ترك وراءه خيطًا من الذاكرة، وكأن كل خطوة كانت نقشًا على جدار الزمن.
بين الحكاية والأغنية… بين فيروز وأندريتش
عندما تغني فيروز: “ع موقف درينا وقفنا وتودعنا…”، تبدو الأغنية كأنها امتداد للرواية، كأنها صدى لحكايات العابرين على الجسر. كل وداع هنا هو استمرار لوداع هناك، وكل شوق في الأغنية هو صدى لذكرى مطمورة تحت حجر.
فيروز تكتب بالأغنية ما كتبه أندريتش بالحرف. كلاهما يسكن نفس الأرض، أرض الذاكرة والتاريخ، وكأن الجسر، بكل صمته ووجعه، يخبرهما أن الألم واحد، وأن الفقد هو الحقيقة الوحيدة التي يتقاطع عندها الجميع.
الجسر في داخلنا
أحيانًا، نشعر أننا نحن الجسر.
نحمل فوق أكتافنا جراحًا لم تندمل، وأحلامًا لم تكتمل.
نمرر الآخرين عبر حياتنا، نودّع من نحب، نُهجر أو نهجر، نبني وندمّر، لكننا نظل ثابتين، صامدين، كأننا جسرٌ من حجر وحنين.
أندريتش لم يكتب فقط عن فيشيغراد، ولا عن البلقان. لقد كتب عن الإنسان كله. عن الخوف، والحب، والخيانة، والأمل الذي لا ينطفئ. كتب عن جسرٍ لا يسقط، لأن ذاكرته باقية في قلوب الناس.
في الختام…
الجسر على نهر درينا ليس مجرّد بناء، ولا الرواية مجرد قصة، ولا الأغنية مجرد لحن. إنها الحياة بكل تقلباتها، بكل أوجاعها وأحلامها.
إنها رسالة أن كل شيء قد يتحطم، لكن الذاكرة لا تموت.
وأننا، مثل الجسر، نقف رغم العاصفة.
نموت حين ننسى… ونبقى حين نحمل الحكايات في قلوبنا.





