الدولة البوسعيدية.. جذور راسخة في التاريخ وامتداد متجدد في مسيرة النهضة العُمانية

مسقط في أول نوفمبر /العُمانية/ تمثل لحظة تأسيس الدولة البوسعيدية على يد الإمام المؤسس السيد أحمد بن سعيد عام 1744م نقطة تحول بارزة في مسيرة التاريخ العُماني، إذ أرست دعائم الوحدة الوطنية وحددت ملامح السيادة والاستقلال. ومنذ ذلك الحين، واصلت الأسرة البوسعيدية قيادة الدولة بثبات وحكمة، محافظةً على استقرارها الداخلي ومجابهةً لتحديات الخارج، لترسّخ قيم الانفتاح والاستمرار في البناء والعطاء.

ويجسّد اعتماد 20 نوفمبر يومًا وطنيًّا لسلطنة عُمان عمق الارتباط بالجذور التاريخية للدولة البوسعيدية، واستحضارًا لمسيرة امتدت عبر القرون من التأسيس إلى النهضة المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُلطان هيثم بن طارق المُعظَّم /حفظه الله ورعاه/. فقد أكد جلالته في خطابه السامي بمناسبة توليه مقاليد الحكم في 11 يناير الماضي على أهمية هذا اليوم باعتباره تكريمًا للأسلاف الذين أسسوا الدولة ووحدوا رايتها، مشيرًا إلى أن هذا التاريخ يجسد ملحمة العُمانيين في سبيل السيادة والكرامة والحرية.

وأوضح الدكتور ناصر بن عبدالله الصقري، أستاذ التاريخ الحديث المساعد بجامعة السلطان قابوس، أن الإمام أحمد بن سعيد أرسى دعائم الدولة البوسعيدية ووضع أسس القيادة الراسخة التي مكّنتها من الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية، مؤكدًا أن إرثه القيادي أسّس لمفهوم السيادة الوطنية التي ما زالت تمثل جوهر استقلال القرار العُماني.
وبيّن الصقري أن اختيار 20 نوفمبر يومًا وطنيًّا يجسد استذكارًا لتاريخٍ مضيءٍ تأسست فيه الدولة الحديثة التي امتدت آثارها إلى حاضرٍ مزدهر في ظل القيادة الحكيمة لجلالة السُلطان هيثم بن طارق، إذ تستمد عُمان قوتها من تاريخها العريق لبناء مستقبل واعد.

وقالت الدكتورة بهية بنت سعيد العذوبية، الباحثة في التاريخ العُماني، إن الأسرة البوسعيدية واصلت مسيرة بناء الدولة الحديثة عبر مراحل متعاقبة، بدأت بتوطيد الحكم والاستقرار في عهد الإمام المؤسس، وتوسعت في المجالات الاقتصادية والعسكرية والإدارية في عهد السُلطان سعيد بن سُلطان، الذي جعل من عُمان قوة بحرية وتجارية مؤثرة في المحيط الهندي وشرق إفريقيا. وأضافت أن النهضة الشاملة التي شهدتها البلاد في عهد السُلطان الراحل قابوس بن سعيد /طيّب الله ثراه/ كانت امتدادًا لهذا الإرث، إذ شملت التنمية كافة القطاعات ورسخت سياسة الحياد الإيجابي والدبلوماسية الهادئة التي منحت عُمان مكانتها الدولية المرموقة.
وأوضحت أن النهضة المتجددة في عهد جلالة السُلطان هيثم بن طارق /حفظه الله ورعاه/ تمثل مرحلة تطوير واستدامة، حيث تركز على الإصلاح الإداري والاقتصادي وتفعيل رؤية عُمان 2040 التي تسعى لتنويع الاقتصاد وتمكين الشباب والاستثمار في رأس المال البشري.

وأشار الدكتور يونس بن جميل النعماني إلى أن الجغرافيا فرضت على العُمانيين خوض البحر فكانت لهم الريادة في الملاحة والتجارة ونشر الثقافة عبر العصور. واستفاد الإمام أحمد بن سعيد من هذا الإرث البحري بإحياء الأسطول العُماني لحماية الوطن وبسط النفوذ، مؤكدًا أن تجربته تمثل درسًا خالدًا في العزيمة والإصرار وحب الوطن.

أما الدكتورة حنان بنت محمود أحمد، الباحثة في الهوية الثقافية العُمانية، فأكدت أن الأيام الوطنية تكرّس الانتماء وتعزز الوحدة الوطنية عبر استحضار الرموز التاريخية، مشيرةً إلى أن إحياء المناسبات التاريخية يسهم في ترسيخ الهوية الوطنية وتعريف الأجيال بمنجزات الأسلاف. واستعرضت إسهامات السُلطان سعيد بن سُلطان الذي جعل من زنجبار عاصمة ثانية لعُمان، وأرسل أول بعثة عُمانية إلى الولايات المتحدة عام 1840م على متن السفينة “سُلطانة”، في رحلة خالدة تؤرخ لانفتاح عُمان على العالم.

وأوضحت أن إبداعات العُمانيين البحرية تواصلت حتى اليوم من خلال “سفينة شباب عُمان” التي تجوب العالم حاملة رسالة السلام والصداقة، رمزًا لاستمرار النهج الحضاري. كما تابعت الدولة البوسعيدية تطورها في عهد السلاطين اللاحقين الذين واصلوا جهود البناء، فبرزت إنجازات عمرانية وثقافية وتعليمية أسست لدولة عصرية متكاملة.

وفي سياق متصل، قالت الدكتورة رنا بنت حمدان الضويانية إن الإمام أحمد بن سعيد تميز بسياسة اقتصادية ذكية ألغى بموجبها الضرائب لجذب التجارة، مستفيدًا من خبرته كتاجر، كما عُرف بالعدل والحكمة في إدارة شؤون البلاد أثناء ولايته على صحار، ما أكسبه احترامًا واسعًا ومهّد لنجاح مشروعه في توحيد عُمان وبناء دولة مستقلة متماسكة.
وأشارت إلى أن إسهاماته العسكرية والإدارية كانت الأساس لبناء نموذج حكم مستقر قائم على التوازن بين القوة والعدل، وترسيخ مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية، فضلًا عن ترسيخ مكانة عُمان الدولية عبر علاقات قائمة على الاحترام المتبادل.

كما تناولت الدكتورة أحلام بنت حمود الجهورية دور سيدات الأسرة البوسعيدية في الحياة السياسية، مؤكدة أن المرأة العُمانية كانت شريكًا فاعلًا في إدارة الدولة منذ بداياتها، ومن أبرزهن السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد التي لعبت دورًا محوريًّا في إدارة شؤون الحكم خلال وصايتها على ابن أخيها السُلطان سعيد بن سُلطان، إضافةً إلى سيدات أخريات كان لهنّ أثر بارز في الحياة السياسية والاجتماعية.
وأضافت أن السيدة فاطمة بنت علي البوسعيدية، والدة السُلطان سعيد بن تيمور، كان لها دور محوري في إعداده لتولي الحكم، وتُعدّ من الشخصيات المؤثرة في تاريخ الدولة خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ومن عمق التاريخ إلى حاضر النهضة، يظل إرث الدولة البوسعيدية شاهدًا على أن المجد لا يُورّث فقط، بل يُبنى بالعزيمة والعمل. وتواصل سلطنة عُمان اليوم مسيرتها بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُلطان هيثم بن طارق المُعظَّم /حفظه الله ورعاه/، مستلهمة من تاريخها العريق قوةً تضيء حاضرها وتوجّه خطاها نحو مستقبل أكثر إشراقًا واستقرارًا.





