من نبع الفلج إلى نبض الوطن… الشرع للتمور يكتب فصلاً عمانيًا في سفر الريادة

حمود بن علي الطوقي
في عالم يمتلئ بالقصص العابرة، تبقى بعض الحكايات قادرة على لمس القلب قبل العقل، وتفرض حضورها مهما كانت بسيطة في بدايتها. وكصحفي تابعتُ على مدى سنوات طويلة مسيرة ريادة الأعمال في عُمان، مرّت أمامي تجارب عديدة تستحق التقدير، لكن قليلًا منها يترك أثرًا حقيقيًا يدفعك للكتابة عنه.
وقصة شركة مطاحن وتمور الشرع واحدة من تلك القصص النادرة التي تجبرك على التوقف؛ ليست لأنها مشروع ناجح فحسب، بل لأنها حكاية وطن تُكتب بجهد شباب آمنوا بأن ما يبدأ صغيرًا… يمكن أن يصبح كبيرًا إذا كان خلفه إيمان، وإصرار، ورؤية واضحة. إنها تجربة تستحق أن تُروى، وأن تكون نموذجًا مُلهِمًا لكل شاب عماني يبحث عن طريقه في عالم ريادة الأعمال.
وصلني قبل أيام مقطع فيديو يوثق افتتاح أكبر فروع (الشرع للتمور) في منطقة الرسيل، وكان هذا المشهد البسيط كافيًا ليحفّزني على كتابة هذا المقال عن هذه التجربة العُمانية الملهمة. وقد استوقفني مشروع الشرع منذ فترة، خصوصًا عندما زرت فرعهم في ولاية السيب وفي حارة العقر بسوق نزوى، ورأيت تناغم البساطة مع الاحتراف، والمنتج الوطني مع روح المكان.
إن التجارب العمانية الناجحة لابد أن تُروى، وأن تُقدَّم كنماذج عملية تلهم الشباب، ومشروع الشرع أحد هذه المشاريع التي تبحث عنك قبل أن تبحث عنها. وفي الحقيقة، أنا لا أعرف هؤلاء الشباب، ولم ألتقِ بهم يومًا؛ لكن مشروعهم المتميز، وروح الجدية والاحتراف التي ظهرت في الفيديو، ألهمتني لكتابة هذا المقال دعمًا لهم وتشجيعًا لمسيرتهم الوطنية.
وحتى أكون على بيّنة مما سأكتب، تواصلت مع الأخ سعيد بن صالح القصابي مسؤول التسويق، للاستئناس ببعض المعلومات حول بدايات المشروع. فاتضح أن القصة تعود إلى منطقة تُسمى “الشرع” في ولاية بهلاء، وهي منطقة قديمة كانت ملتقى للقوافل وموضع تجمع للأهالي لقضاء احتياجاتهم اليومية. وهناك، التقط الجد سعيد بن عبدالله بن سعيد الجعفري فكرة تأسيس متجر صغير لبيع التمور، مستفيدًا من الموقع الاستراتيجي وحركة الناس المتواصلة. كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها كبيرة في أثرها، إذ وضعت الأساس لمشروع عائلي سيكبر مع الزمن بجهد الأبناء وطموحهم.
ومع تطور الزمن وتبدّل احتياجات السوق، حمل الأبناء — سعيد ومحمد وسعود وخليل وماجد أبناء عبدالله الجعفري — هذه الفكرة، وأعادوا تطويرها وتوسيعها، حتى تحولت إلى شبكة فروع منتشرة في معظم محافظات السلطنة. عملوا على تحسين المنتجات، وتطوير أساليب التغليف والعرض، وبناء هوية تجارية واضحة، مع الاعتماد على كوادر عمانية بشكل أساسي. وهذا الخيار كان أحد أهم أسرار النجاح؛ فالزبون يشعر براحة وثقة أكبر عندما يتلقى الخدمة من شباب يفهمون لهجته وبيئته وثقافته.
ورغم المنافسة المتزايدة في سوق التمور، استطاع مشروع الشرع أن يثبت مكانته بفضل جودة منتجاته وروح الفريق التي يقودها أبناء العائلة. واليوم، أصبحت منتجاتهم حاضرة في أغلب البيوت العمانية، وهذا لم يكن ليتحقق لولا العمل الجاد والإدارة الواعية التي حولت مشروعًا صغيرًا إلى علامة وطنية متألقة.
أما افتتاح أكبر فروع الشركة في الرسيل، فهو ليس مجرد توسع تجاري، بل هو إعلان واضح لدخول مرحلة جديدة أكثر نضجًا. فخلال الأيام المقبلة، تستعد الشركة لافتتاح فرع كبير في مطار مسقط الدولي، ثم الانطلاق نحو الدول الخليجية المجاورة، في خطوة تعكس ثقة كبيرة بقدرة المنتج العماني على المنافسة إقليميًا ودوليًا.
إن قصة الشرع للتمور لا تمثل فقط نجاحًا لعائلة عمانية ورثت المهنة أبًا عن جد، بل تُجسد نموذجًا حيًا لما يمكن أن يحققه الشباب العماني عندما تتوفر الإرادة والرؤية والحرص على الجودة. إنها قصة تلهم، وتشجع، وتؤكد أن النجاح يبدأ من فكرة صغيرة… لكنه يكبر مع الإصرار، والإيمان بالعمل، والثقة بالقدرات الوطنية.
وفي ختام هذه الحكاية، يبقى الدرس الأهم واضحًا لكل من يقرأ مسيرة هذا المشروع:
ليست المشاريع هي التي تنجح، بل الناس الذين يقفون خلفها.
فالتشجيع، والإيمان، والصدق في العمل، والإخلاص، هي العوامل الحقيقية التي تصنع نجاح أي مشروع، وتحوّله من فكرة عابرة إلى علامة وطنية راسخة.





