الشاعر ذياب العامري يحفز الوتر الصنعاني ليصدح للباسِقاتِ بِمَدِّ الشَّوْفِ

حمود السيابي


حمود بن سالم السيابي
كانت عقارب الساعات تتسابق نحو النصف الثاني من الليل حين وَمَضَتْ شاشة هاتفي و على الطرف الآخر للخط الشيخ ذياب بن صخر العامري.
لم أتفاجأ بتوقيت الاتصال فالأستاذ العامري كالمطر لا بد وأن أفرح بهطوله العابر للوقت.
ولم أسأل أبا صخر عن أي بلد في الكون حمله صيف هذا العام فأحباب الأستاذ بامتداد الوطن العربي الكبير ورفاق دربه الطويل يعرفون خرائط مواسمه.
إنه ككل عام في “سخيفننجن” حيث يتكسُّر الموج المالح لبحر الشمال منهيا تطوافا بين أكثر من عاصمة ليعود كطائر مهاجر إلى الغصن الهولندي الأثير.
وإنه ككل مرة يباغت حقول أوروبا بمطر قوافيه فتتلاقى الروافد عند مصابها السنوية في هولندا لترفد أنهار “الراين والميز وشيلد ولافادو” فتشرب حقول الزنبق والتوليب مطر القصائد.
دار الحديث الهاتفي باتجاه دوران الطواحين في الأراضي المنخفضة فتباطأ الليل.
وكان كبير المذيعين يتحدث من مستقرِّه البعيد في “سخيفننجن” وفي نبرة الصوت “نشرة العاشرة”.
دعاني في ثنايا الحديث للَّحاق به في “سخيفننجن” وكانت الدعوة مغرية لرؤية الجسر الذي يعلقه مرح الصيف فوق زبد البحر كل موسم
وهي فرصة لزيارة لاهاي بلد الشاعر “ريمكو كمبرت” الذي رحل قبل عام وهو يتمنى “أن ينهي حياته في قصيدة ، ويترك سماءه فوق ساحة صغيرة للحب”.
ولولا أنني حديث عهد بالعودة من سفر علاجي لما ترددت من قبول الدعوة لقهوة هولندية في ميدان “رامبرانت” حيث رسام هولندا يضيف بألوانه قنوات جديدة لبلد “الأمستل” والطواحين والجسور والقنوات.
ويصطف ببورتريهاته ليضاعف سكان هولندا.
واصل الأستاذ تدفقه الهاتفي وواصلت الإنصات للخبر تلو الخبر ليكمل نشرة العاشرة
وجدد الدعوة لقهوة “بج بل” وأجواء قصيدة “باتريشيا” لنكمل لقاءات جمعتنا قبل أعوام ، ومرة أخرى كررت الاعتذار لعودتي القريبة ولمتاعبي الصحية.
أغلق الهاتف ليتبع المكالمة برابط صوتي لرائعته “صافَيْتِنِي الوُدَّ” وكأنَّ الكلمات قد فُصِّلت على مقاس الصوت الصنعاني الآسر لجميلة سعد ، أو هكذا سبكها الأستاذ ذياب ، وصقلها الصائغ نسيم عنبة :

صافَيْتِنِي الوُدَّ أعوامًا وأعواما
وكُنتِ لي وَحيَ أشعـاري وإلْـهـامـا.

وكُنتِ لي واقِعًا حَيًّا أُلامِسُهُ
ومُرتَجٰى الأمَلِ الآتي وأحلاما

وكُنتِ لي مَوْئِلًا للحُبِّ أقصِدُهُ
كَيْما أُلِمُّ بِفَنِّ الحُبِّ إِلْماما

أعدتُ الرابط مرات ومرات وأنا أستذكر قصة أبي صخر مع “كمنجة” أستاذه محمد أحمد با عبّاد في غيل باوزير عام ١٩٦٢م يوم امتشقها الطالب ذياب بدافع الفضول المغلف بالحب والبر والوفاء لأستاذه لأجل التقاط صورة مع كمنجة الأستاذ.
يومها لم يدر في خلد الطالب ذياب العامري أن أمثال هذه الكمنجة وغيرها من الآلات الوترية ستحلِّق في سماوات العرب بكلمات شاعر عماني كبير من حيل العوامر وستشنِّف الأشعار مليون أذن وأذن.
واصلتُ الاستماع لكلمات عاشق يسكنه الوطن حتى نخاع النخاح ، ولأوتار وحنجرة غرِّيدة اليمن جميلة سعد وهي تغني لعمان بحب وكأنها حادي القافلة في أول مسير لها من مأرب إلى عمان.
ومن مدخل عاطفي ساحر “لصافَيْتِنِي الوُدَّ” إلى ذروة التغني بمفردات الوطن:

عُمانُ يا مَوْطِنَ الأحرارِ كَمْ عَرَفَتْ
عنكِ المآثِرُ تصميمًا وإقداما

تَحكي قِلاعُكِ للتاريخِ مَلْحَمَةً
ضِدَّ الغُزاةِ ومَنْ حولَ الحِمٰى حاما

أَنّٰى نَظَرتُ جمالٌ فيكِ يأْسِرُني
أَسْرَ الطبيعةِ غِـزلانًا وآراما

فالباسِقاتُ بِمَدِّ الشَّوْفِ في سَمَقٍ
زاهٍ يَمِدنَ إذا صادَفْنَ أَنساما

والرّاسياتُ سَمَتْ فوقَ السَحابِ وقَد
شادَتْ لها في شُموخٍ بَيّنٍ هاما

وفي السّواقي وفي الأَفلاجِ كم عَزَفَتْ
قيثارةُ العَزمِ والتّصميمِ أنغاما

فَرَدّدَتها سُهولُ الخَيْرِ مُمْرِعَةً
وكَلَّلَ الخِصبُ وديانًا وآكاما

إنْ غِبتُ عنكِ إليكِ الشّوقُ يَجذِبُني
ولو توارَيْتُ عن مَغناكِ أيّاما

فَلا جُناحَ على مَنْ قَد أَحَبَّ وهل
ضَـيْرٌ على العاشِقِ الهَيْمانِ إنْ هاما

ومن رابط صنعاني بصوت جميلة سعد إلى رابط حضرمي لنفس الغرِّيدة وهي تصدح بكلمات الأستاذ ذياب “يقولون الهوى متعب وقاسي” إلى رابط ثالث تعيد فيه حنجرة اليمن الخارجة من احترابات الساسة والسياسة بشموخ جبال “أيوب وشعيب ورداع” ما سبق وأداه الراحل سالم علي سعيد”سلوه كيف يرضى أن يلينا”.
ثم برابط باذخ بصوت محمد المخيني المشبع بملح بحر العفية ورأس الميل للأغنية الخالدة “ماذا يضيرك لو عشقتك مرة”.
أغلقت الجواهر الصوتية الثمينة لذياب العامري ليتعاظم الشعور بأن ميكرفون الإذاعة وشاشة التلفزيون ونشرات الأخبار والحوارات التلفزيونية مع القادة العرب والأجانب مجرد محطات في السيرة الثرية لأستاذنا ذياب العامري الذي جاء إلى الإعلام تسبقه قصائده ، وغادر موقعه وهو يتأبط عددا من الدواوين ، فالشاعر الكبير في ذياب العامري قبل المذيع الكبير.
وحين تحلِّق جميلة سعد بكلمات شاعر كالأستاذ ذياب العامري إنما تعبِّر عن ذائقة عالية في ترصيع مسيرتها الفنية وتعشيقها بهذه الجواهر الكريمة.
وحين يفصِّل الأستاذ العامري كلمات بحماس الرزفة العمانية وعذوبة المقامات الصنعانية وزُهُوِّ البرع الحضرمي إنما يعبر عن توطيف القوة الناعمة في تعزيز وشائج الجغرافيا وروابط التاريخ.
وتبقى “أنتِ المحبة يا عمان” أجمل ما يختتم به حديث الشعر والوتر :

“ولئـن ذوى عــود الزمان بـأمـةٍ
يبـقى زمانـك للـورى أبـريــلا

وإذا ورود الشــوق ماتت حسـرةً
تنـمو ورودك للـجــوى إكـليـلا

لا تـسأليـني أن أؤول لـوعــتي
فالشـعر يأبى البـوح والتـأويـلا

هـل تصبـحين حبـيبتي وخليلـتي
فـبـدون ودك لا أود خليــــلا

لولا ودادك مــا نظمت قصائــدي
ولما غـدا حبـل الهـوى موصولا

أنـت المحبـة يا عمـان ولا أرى
من غير حبـك يـا عمـان بديــلا

كـوني اذاً حـباً عظيـماً خالــداً
كـوني الرؤى كوني الصفـاء دليـلا”
—————————
الجبل الأخضر في الخامس من أغسطس ٢٠٢٣م.

زر الذهاب إلى الأعلى