نبض طبيب : عرش الطغيان فـي لحظات الفناء

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
غُرفُ العنايةِ المركَّزةِ قد تكُونُ بوَّابةَ السَّماءِ تُقطعُ فيها أحيانًا تذكرةُ عدمِ العودةِ، يُحلِّق فيها بلا خوفٍ من أعَدَّ الزَّادَ لِيأنسَ في رحلته الأبديَّة. يرقدُ على شفا سرير قارعة النِّسيان ذلك المريض بهُوِيَّة برجوازيَّة، فهو ذو الشَّأن العظيم، صاحب المنصب الكبير، الَّذي قضَى عمره مُحاطًا بسحابةٍ من التَّبجيل… تبدو الغرفة باردةً تبعثُ شعورًا بالقشعريرة مع ضوضاء أجهزة المؤشِّرات الحيويَّة الَّتي لا تتوقَّف عن التَّذبذب بضجيجٍ متسارع وكأنَّها تدقُّ ناقوس الوداع، برؤيةٍ ضبابيَّة يحاولُ أنْ يرَى رغم قزحيَّة عَيْنِه البالية، يتحسَّس ما حَوْلَه من صخبِ الطَّاقم الطبِّي يستمع لتمتماتهم بأنَّ رحلتَه الوجوديَّة على مشارف الانتهاء، أبسطُ اللَّمسات أضْحَتْ تُوجعه، وأكبرُ آمالِه حفنة أوكسجين مجَّانيَّة من هواءٍ لا يستطيع شراءه لِيتمسَّكَ بتلابيبِ فنائِه.
يبحلقُ في الفضاء وبجوفِه كُلُّ التَّفاصيل والخبايا لِيتذكَّرَ قصْرَه، وكومة السَّطوة والجاه، والوجوه الَّتي كانتْ تنحني له في صمتٍ وخنوعٍ طالَما أسعدَه ومكَّنه على غيره ضرًّا، وطمسَ عن ناظرَيْه البوصلة الوجوديَّة الَّتي ستنتهي به في اللامكان… يتذكَّر سائق سيَّارته الفارهة الَّذي يفتحُ له البابَ وموظَّفِيه البؤساء!! كم ظلَمَ مِنْهم عمدًا؟ وكم أنصفَ مِنْهم زورًا وبطشًا؟
يقفُ أمام ذاته عاريًا من كُلِّ ما يملكُ لِيُواجِهَ عجزَه القابعَ في دواخلِه، والَّذي يختصرُ رفاتَ تاريخِه وشريط إنجازاتٍ من رمادٍ مُشبَّعة بِجَوْرٍ وظُلمٍ ساحقٍ يستجدي فيها مهادنةً مع الزَّمن لعلَّه يربح أكثر وقتٍ ممكنٍ لِيُثقلَ ميزانَه ويُخفِّفَ من سكراتِ حَتْفِه.
في لحظاتِ الإدراكِ المتأخِّر يحاولُ أن يسترجعَ تفاصيلَ بابِ المقبرة البالي، ومتى آخر مرَّة زارها حاملًا نَعْشَ أحَدِهم، بابٍ على عتبةِ حتميَّة قدره وبداية الحساب، يستعدُّ لهَا مرتحلًا تاركًا مستنقعَ الحياةِ صاغرًا لمآلِه، يتذكَّر كيف كانَ بابُ بَيْتِه مترفًا يَليقُ بأسيادٍ ما لَبِثُوا فيها بضع سنين يرفلون من ملذَّاتهم في غفلةٍ أضاعوا وجهتهم وأضاعتهم.
عزيزي صاحبَ الجاهِ والمنصبِ، تفاصيلُك هي الَّتي تنحَتُ صيرورتَك، ولا يوجد شيء عبثي في مخيِّلاتنا.. صَدِّقني أنتَ مَن طمرتَ رفاتَ نَفْسِك على قارعةِ الظُّلمِ والخذلان، لَطالَما حمَّلتَ العالَم ما في أحشائِكَ من بشاعةٍ وزيفٍ، لن تعترضَكَ أشباح، بل بضاعتُكم ردَّتْ إِلَيْكُم، وسيظلُّ يطاردُكَ شبحُ ذلك المقموع في جوفِه الَّذي ظلَمتَه، سيظلُّ يؤرقُ نَوْمَكَ، ينتظر دَوْرَه حتَّى ينصفَه الحَكَمُ العَدْل.
في آخرِ العُمر ستلوحُ لكَ نَفْسُك المُتوَحِّشة غاضبةً من ذاتِكَ المتواطِئة مع السُّلطة، وكأنَّها جيوشُ الأرضِ جمعاء، تُفنيكَ بترسيات روحيَّة أهمَلتْها ذاكرتُكَ ونسيتَها، ولكنَّ عَيْنَ الله لا تنسَى… ذلك التَّشوُّه الوجداني الَّذي زرعتَهُ في ثنايا أحَدِهم، وضيَّقتَ الخناقَ، واتَّخذتَ الظُّلمَ ذريعةً لإنصافِ جَهْلِكَ وظلاميَّتِك، راضخًا لِبَشَريَّتِكَ بفِطْرتِها بأن تحظَى بِدَوْرِ البطولةِ على مخلوقاتٍ هشَّةٍ لِتَطْبعَ بصمتَكَ من الجَوْر والأسَى.
صفرتْ أجهزةُ المؤشِّراتِ الحيويَّة بتوقُّفِ القلبِ بلا هالةٍ من السُّلطةِ أو النُّفوذ. فجهاز المونيتور لا يُفرِّق بَيْنَ نبضِ فقيرٍ ونبضِ غنيٍّ، عِندما يستقيمُ خطُّ النَّبضات تُصبح كُلُّ الألقابِ والمناصبِ هباءً، وتذوبُ الفوارقُ بَيْنَ البَشَرِ، ويُطْوَوْنَ بِنَفْسِ الرِّداء الأبيض.. أُعلنتْ حالةُ الوفاةِ كما تعلنُ عن وفاةِ أيِّ مريضٍ آخر، ومرَّ الخبرُ مرورَ الكرامِ بَيْنَ جدرانِ المستشفى.
لا أعْلَمُ لماذا ما إن يُذكَر الموتُ يُحاطُ بالتَّمائمِ والاستعاذاتِ وكأنَّه قصاصٌ يحلُّ بالأشرار؟
لَطالَما أيقنْتُ بأنَّ الفناءَ هو الوجهةُ الَّتي تُشدُّ إِلَيْها الرِّحالُ جميعًا والَّتي لن تستثنيَ أحدًا، رحلتُنا للعالَمٍ الآخر مِثل رحلتِنا في هذه الحياة تمامًا، وكُلَّ ما تحتاجُه هو أن تُؤمِّنَ زادَكَ في رحلتِكَ السَّرمديَّة من عملٍ صالحٍ وخيرٍ في الدُّنيا، وبقدرِ ما تحملُ إِلَيْها من متاعٍ يكُونُ الأُنس فيها، ولا خوف عَلَيْهم هُنَاك ولا هُمْ يحزنون.
طبيبة وكاتبة عمانية
المصدر: جريدة الوطن





