قراءة نقدية: كتاب “الإعلام والحرب في بيئة أمنية متغيرة” للكاتب العماني الدكتور عبدالناصر بن أحمد العبري (3)

الجزء الثالث
نواصل في هذه الجزء استعراض العلاقة بين الثورة التكنولوجية في وسائط الاتصال وبين الثورة التكنولوجية في الشئون العسكرية. يتحدث الدكتور عبدالناصر العبريعن طبيعةالعلاقة المعقدة التي تربط الحرب بالتكنولوجيا فقد أصبحت التكنولوجيا عنصرًا فاعلا في حسم العمليات القتالية من خلال استخدام أنظمة التسلح ذات التقنيات العالية والموجهة عن بعد ومن خلال أنظمة ذكية إلى جانب أنظمة اتصالات متطورة، بينما يشير مفهوم “ضباب الحرب” (Fog of War) إلى الغموض الذي يكتنف المعركة والتي تلعب فيه وسائل الإعلام دورا رئيسيا، مما يؤثر على عملية ومسار اتخاذ القرارات العسكرية المتعلقة بالمشاركة في الحرب من عدمها.
التطور التكنولوجي والحرب
يستعرض الكتاب تطور استخدام التكنولوجيا في الحروب الحديثة، حيث تشمل استخدام تقنيات الطائرات المسيرة بدون طيار، والأسلحة ذاتية التشغيل، والأقمار الصناعية التي يتم توظيفها في عمليات جمع المعلومات الإستخبارية. تُستخدم هذه الأدوات في الحروب غير التقليدية كالحرب الهجينة ومكافحة عمليات الشغب والإرهاب. ورغم مزاياها، تُثار مخاوف قانونية وأخلاقية حول استخدام الأسلحة الذكية، حيث يتحمل البشر مسؤولية برمجتها وتشغيلها. وهذا ما يسمى الآن بمفهوم “الحرب الذكية”.
وأشار الكاتب إلى أن الحروب السيبرانيةأصبحت جزءًا من استراتيجيات الدول الكبرى لتعزيز تفوقها المعلوماتي. ولذا، بات الفضاء الإلكتروني مجالًا للصراعات، مثل الهجمات السيبرانية التي تستهدف الأنظمة الإلكترونية أو تسريب برامج خبيثة “الفيروسات الإلكترونية”، كما حدث مع حادثة ضرب البرنامج النووي الإيرانيبفيروس “ستوكسنت”.
الإعلام والحرب المعلوماتية
تعرف تكنولوجيا الإعلام والاتصال بأنها استخدام الأدوات الرقمية والاتصالات لجمع المعلومات وتحليلها ونقلها بسرعة وفعالية وتتميز بخصائص مثل التفاعلية، والانتشار الواسع، وإمكانية التحويل بين الوسائط المختلفة. هذه التقنيات أثرت على فهمنا للاتصال والإعلام من خلال تعزيز الترابط بين الأفراد والمجتمعات.فالوسائط الإعلامية، كالتلفزيون والإذاعة والصحافة الورقية والمطبوعة والمواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت ووسائط التواصل الإجتماعي، أثرت على تشكيل اتجاهات الرأي العامالداخلي والخارجي حول ماهية الحروب وأهدافها، حيث يعتمد مفهوم “الحرب الإعلامية” على نشر الدعاية والإشاعات للتأثير على العقول. وعليه، أصبحت وسائل الإعلام جزءًا من الحروب الحديثة وليست فقط وسيطًا ناقلًا للمعلومات.
أدت الثورة في الشؤون العسكرية إلى تحسين إدارة العمليات الإعلامية. ظهرت نظريات مثل “البيئة الإعلامية” التي تشير إلى أن الوسيط الإعلامي يغير من إدراكنا للمحتوى ويؤثر على طريقة تفاعلنا معه. فالإعلام الرقمي اليوم مثلا قد يكون أكثر تأثيرًا من التلفزيون في تشكيل التصورات العامة حول الحروب والأزمات لكن في فترة سابقة كان التلفزيون هو المحرك الرئيسي في تشكل الوعي الجمعي للجمهور حول ظاهرة الحرب. مثال على ذلك، أشار جان بودريار إلى دور القنوات الفضائية في خلق حروب وهمية، كما حدث في حرب الخليج الأولى، حيث استُخدمت وسائل الإعلام لتوجيه تصور الحرب لدى الجماهير. يرى بودريار أن العولمة خلقت نظامًا عالميًا معقدًا يحوّل العدو إلى هدف افتراضي لا قيمة له، بينما تصبح الحروب أداة لتعزيز الهيمنة الإعلامية والسياسية.
وفي هذا الصدد، استعرض الكتاب نموذج هوسكينزوأولوغلين (2015) في تبيان العلاقة بين وسائل الإعلام التقليدية والحرب والتي تم تصنيفها بأنها مرت بثلاثةمراحل:
- مرحلة البث التلفزيوني:ارتبطت هذه المرحلة بسيطرة المحطات الفضائية مثل CNNو BBCولاحقا الجزيرة على صناعة الأخبار، حيث أدى نظام التجميع العسكري والتنقل السريع للمعلومات إلى هيمنة المؤسسات الإعلامية على تغطية الحروب. ساعدت هذه المرحلة في صياغة سياسات دولية تحت تأثير وسائل الإعلام العالميةالأمر الذي أجبر صناع القرار على الاستجابة للأحداث التي سلط الإعلام الضوء عليها، خاصة ما يتعلق بحماية أرواح المدنيين أو استهداف المواقع غير العسكرية مثل المستشفيات او المدارس او الملاجيء.
- مرحلة الحرب المشتتة:ظهرت هذه المرحلة عقب أحداث 11 سبتمبر، حيث عززت الوسائط الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي من خلق ديناميكية جديدة لنقل الأخبار، ما أدى إلى خلل في إدارة الصراعات. أتاح انتشار شبكة الإنترنت إلى تبادل محتوى رقمي شامل بين جمهور غير متجانس وبشكل لم يسبق حدوثه من قبل وبدون وجود ما يسمى ب “حارس البوابة الإعلامية” الذي يعمل على تصفية المحتوى بناء على سياسات إعلامية محددة تقرها المؤسسة أو الوزارة أو الدولة مما خلق ارتباكًا لدى الجمهور وصناع القرار حول توجيه الرأي العام لا سيما الرأي العام الداخلي نحو تأييد قرارات الحرب وما يترتب عليها من تداعيات على الإنسان والمجتمع والاقتصاد وغيره.
- مرحلة إحكام السيطرة الإعلامية:شهدت هذه المرحلة تعاونًا أعمق بين المؤسسات العسكرية ووسائل الإعلام الرئيسية في التحكم بالسرد الإعلامي، خصوصًا في الصراعات المعاصرة. يتميز هذا النموذج بزيادة تأثير وسائل الإعلام على الجماهير من خلال احتكار المحتوى، ما يضمن دعم الرأي العام للأعمال العسكرية وغير العسكرية.
الإعلام والسياسة الخارجية
يشير الكاتب إلى أن تطور الوسائط الرقمية أدى إلى خلق نظام إعلامي هجين يجمع بين الإعلام التقليدي والحديث، مما أثر على صناعة القرار السياسي على مستوى الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية. يوضح “منطق وسائل الإعلام” كيفية تأثير الإعلام على العمليات السياسية وصياغة الرأي العام، فالفاعلون الرئيسيون هم من يتحكمون في تدفق المعلومات ويوجهون الأخبار لتحقيق أهدافهم.ومن هنا تتأكد ظاهرة انتشار الشائعات والدعاية والتضليل المعلوماتي والأخبار الكاذبة، مما يصعب معها التمييز بين الحقائقوالأخبار الكاذبة. في ظل التدفق الهائل للمعلومات، أصبح الجمهور أسيرًا لنمط الأخبار الموجهة ويظهر ذلك بوضوح في الحروب المعاصرة حيث تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل توجهات الرأي العام وإدارة الصراعات.
ولمواجهة عمليات التزييف، يوصي الكاتب بأن على الدول وضع استراتيجيات لمواجهة تحديات الإعلام والحروب المستقبلية، بما يشمل تعزيز الفهم لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، واستخدام الذكاء الاصطناعي والبرمجيات المتطورة. فالإعلام بات أداة استراتيجية في الحروب، ويؤثر على الأمن والاستقرار من خلال التحكم في المعلومات وتوجيهها بما يخدم الأهداف الوطنية.
نظرية “التأثير الإعلامي” وتحدياتها
تناول الكاتب اختلاف الباحثين وعلماء الإتصال في تقدير حجم وقوة وسائط الإتصالفي التأثير على صناعة القرار السياسي للدولة كقرار الدخول في حرب ما أو قرار الانسحاب من الحرب. فبعض الباحثين أشاروا الى إمكانية أن يلعب الإعلام دورا إيجابيا من خلال الضغط على الحكومات والنخب فيصياغة السياسات المتعلقة بالحروب بناء على التقارير التي تبثها وهذا ما أطلق علية بنظرية “تأثير CNN” خاصة في العمليات العسكرية التي تأخذ طابعا انسانيا. فالإعلام هنا يعيد ترتيب أولويات السياسات المحلية بناء على الوقائع التي يسردها والتي تجبر صناع القرار على الإستجابة لها مما يعزز من سرعة اتخاذ القرارات.
على النقيض، أظهرت بعض الدراسات أن قرارات التدخل العسكري، مثل تدخل الولايات المتحدة في الصومال، لم تكن بسبب الضغط الإعلامي بل بسبب مصالح استراتيجية تتعلق بالأمن القومي الأمريكي. بعد أحداث 11 سبتمبر، تحدى ظهور قناة الجزيرة هيمنة الإعلام الغربي، وبرز نموذج جديد ينقل الحرب عبر شبكة معقدة من الوسائط الرقمية وتقدم محتوى مغايرا عن الأجندة الغربية التي مارست الهيمنة منذ نشأة وسائل الإعلام وهذا شكل تحديا كبيرا للمؤسسات الإعلامية والعسكرية التي أصبحت مطالبة باحداث تغييرات جذرية في طبية التغطيات الإعلامية والسياسات المتعلقة بنشر المحتوى الرقمي.
خلاصة
تعد العلاقة بين التكنولوجيا والإعلام والحرب أحد أهم مظاهر التحولات في القرن الحادي والعشرين. هذه العلاقة تُظهر كيف أصبحت التكنولوجيا والإعلام أدوات مركزية في إدارة الصراعات وبناء تصورات جديدة حول العالم، مما يتطلب وعيًا استراتيجيًا لمواجهة هذه التحديات المتنامية.
استعرض الكتاب العلاقة المتشابكة بين الإعلام والحروب، موضحةً التحولات في بيئة الإعلام وتأثيراتها على الصحفيين وصناعة القرار السياسي. من خلال ثلاث مراحل رئيسية، يبرز تأثير الإعلام التقليدي والجديد في إعادة تعريف طبيعة الحروب وأدوار اللاعبين فيها بما يعكس الأهمية المتزايدة للإعلام كأداة استراتيجية في الصراعات الحديثة.





