في رحيل سليمان الجرداني … ندرك أن اللحظة قد تكون آخر ما نملك

حمود بن علي الطوقي

لم يكن الليل مختلفًا عن سواه، ولم تكن نشرة الأخبار العاشرة التي انتهت للتو بينما كنت أتهيأ للخلود إلى النوم، انقلب كل شيء في لحظة واحدة. وصلتني رسالة على “واتسابية ” تحمل خبرًا أثقل من قدرة القلب على الاحتمال: مفاده سليمان الجرداني في ذمة الله
تجمدت الكلمات في عينيّ قبل أن أقرأها كاملة. تمنيت — بكل ما يستطيع الإنسان أن يتمناه — أن تكون مجرد إشاعة، خطأ عابر، لبسٌ سيُصحح بعد دقائق. سارعت بالسؤال، أبحث عن أي صوت يقول: “الخبر غير صحيح”.
لكن الحقيقة جاءت واضحة، صادمة، لا ترحم:
نعم… سليمان رحل. رحل بسكتة قلبية، رحل دون وداع. هكذا جاءني تأكيد الخبر من الاخ والصديق المشترك عبدالله بن سليم الوهيبي .
في تلك اللحظة، شعرت أن الحياة تهزّنا أحيانًا بقسوة لتذكرنا بأن الموت حق، وأن اللحظات التي نعيشها مع من نحب ربما تكون آخر ما يجمعنا بهم دون أن ندري.
عرفتُ الراحل سليمان بن عبدالله بن هاشل الجرداني قبل أكثر من عشرين عامًا؛ رجلًا بسيطًا بطباعه، لطيفًا بروحه، ثابتًا بعاداته التي التصقت برواد مقهى كالدي في شاطئ القرم. هناك، على تلك الطاولة التي لا يغيّرها، كان يبدأ صباحه، يحتسي قهوته، ويستقبل الداخلين بابتسامة تُشعر كل من يراها بأنه صديق قديم. لم يكن مجرد زائر للمقهى، بل كان جزءًا من المكان وروحه المستقرة.
كانت طاولته تتحول كل يوم إلى جلسة نقاش مفتوحة؛ يجتمع حولها الأصدقاء، ويمر عليها من يعرفه ومن لا يعرفه، كانت طاولته مساحة لمناقشة مستجدات البلد وقضايا الناس وما يدور في الساحة. ولم يكن سليمان مجرد مستمع، بل كان يناقش بعمق، ويُبدي رأيه بوضوح، ويتحدث عن تحديات رواد الأعمال، ومشكلات التسريح، والباحثين عن العمل، ويحمل هموم الشباب الذين ينتظرون فرصة تكشف لهم أبواب المستقبل.

وكان دائمًا يطالبني — وبإصرار لطيف — أن أركز في مقالاتي على مناقشة القضايا التي تهم المجتمع. مثل المطالبة بتوفير فرص العمل للطلبة والخريجين، وأن أكتب عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية من زوايا تمس الناس وتلامس واقعهم. كان يقدم رؤيته حسب خبرته ومتابعته الدقيقة، رؤية نابعة من حرص صادق على مصلحة الوطن.
كما كان ملمًا بالإجراءات والمتطلبات الحكومية، يعرف تفاصيلها وخفاياها، ويشرحها لمن حوله ببساطة ووضوح، نظرا لخبرته الطويلة في مجال العلاقات العامة .
وأستعيد الآن آخر لقاء جمعنا. كنت متوجهًا إلى دولة الكويت، للمشاركة في معرض الكويت الدولي للكتاب وقد ساقني القدر إلى مقهى كالدي قبل ذهابي إلى المطار. وجدته في مكانه المعتاد تمامًا… الطاولة ذاتها، والطريقة ذاتها التي يمسك بها فنجان قهوته، والابتسامة نفسها. صافحته بحرارة، وعندما أخبرته بوجهتي قال لي مازحًا:
“مرتاحين أنتم معشر الصحفيين… كل يوم في بلد، خذني معاك .”
ضحكنا سويًا، وتبادلنا أطراف الحديث داعيا لي بالتوفيق في مهام عملي ، ولم نكن نعلم أن تلك الضحكة ستكون آخر ما نتشاركه.
وحين وصلني خبر وفاته الفجائية، شعرت بأن جزءًا من ذاكرة المكان قد انطفأ، وأن مقهى كالدي نفسه سيشعر بالفراغ كل صباح. لقد رحل سليمان الطيب والخلوف… رحل بصمت، دون ضجيج، لكنه ترك ضجيجًا من الحزن في قلوبنا جميعًا.
رحمكم الله اخي وصديقي سليمان ، وجعل قبركم نورًا وطمأنينة، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان. تعازينا لاسرته وأصدقاءه. .
كان رجلًا بسيطًا… لكنه ترك أثرًا كبيرًا لا يُنسى، لا في حياته، ولا بعد رحيله.

زر الذهاب إلى الأعلى