في جراز النمساوية التي تتجرّع أمواس أغنية “ليالي الأتس في فيينا” لأكثر من ثمانين عاما

حمود السيابي


حمود بن سالم السيابي
أدركُ مدى حزنكِ يا “جراز” فلا أسْمهان أخرى ستغني “ليالي الأنس في جراز ” ولا أحمد رامي سيوزع تركته الشعرية ليعدل بين الأختين.
وأعرف أن نصف زوَّار فيينا من العرب جاءوها بدعوة من صوت أسمهان ، ونصفهم الآخر ليتقصَّوا ما إذا كان رامي أضاف مفتاحا جديدا لبيانو موزارت ومجدا آخر إلى أمجاد “آل هابسبورغ”
أمشي بمحاذاة نهر “مور” الحالم هذا الصباح النمساوي المعتدل ومعظم العرب هنا من المقيمين بعيدا عن منغصات بلدانهم ، فلا سياح يتراشقون الضحكات ولا زوّار يتبادلون الوقوف أمام الكاميرات لتسكب زهرة “الهيدرانجيا” في المشاهد زرقتها الفاتحة كصباح خجول.
إنه الصيف يا جراز فأين العباءات السوداء والغترات الحمراء واستكانات الشاي ورائحة السيلانية الصفراء تجنن أسراب الحمام.
كل الذين يمدون الخطوات في الأرصفة من الطلبة ف”جراز” مدينة تعليمية تتباهى بست جامعات وعشرات المعاهد.
أدقق في تاريخ الأغنية فأتفاجأ بمرور ثمانين عاماً على رائعة أحمد رامي وأسمهان “ليالي الأنس في فيينا” ومدينة “جراز” تتجرَّع حتى الآن أمواس القسمة الضيزى مع شقيقتها فيينا التي لا تبعد عنها سوى ساعتين بالسيارة.
أعبر صحبة الفيصل ومازن والهيثم ضفتي النهر عبر الجسر الواصل بين شارعي “لاند كاي” و”القيصر فرانز جوزيف” فنتوقف عند إبداع هندسي للأمريكي “فيتو أكونتشي” وقد صممه في لحظة سمو عالية ليهدي جراز أيقونة ماسية في ذكرى اتخاذها عاصمة ثقافية لأوروبا عام ٢٠٠٣م. لأحل أن ينتزع الحصة السياحية لجراز بعد أن سرقتها الأغنية.
ورائعة “فيتو أكونتشي” عبارة عن جزيرة صناعية من الزجاج تطفو على سطح نهر “مور” الهادر.
وتتصل الجزيرة بضفتي النهر عبر جسر فولاذي فتتقوَّى به لتصمد في وجه النهر المتدحرج من جبال الألب.
وإذا ما حلَّ المساء فإن ذات الجزبرة الزجاجية تتحول إلى مصباح أزرق داخل تعشيق من زمرد وزبرجد وماس.
وداخل هذا التكوين الساحر تتوزع كراسي أجمل مقاهي جراز ، فلا يعرف الجالس فيه ما إذا كان على حصباء قاع النهر أم على جناح غيمة.
أنزل صحبة فيصل ومازن والهيثم لنجرب فطيرة التفاح ذات المنشأ النمساوي إلا أن أحزان الشاعر العراقي الكردي “بَدَلْ رفُّو المزوري” المقيم في “جراز” تسبقنا إلى مرارة القهوة وهو يتحشرج :
“تعالَ نسافر معاً يا وطني”.
ولعله يقصد الشوق للوطن الذابح حتى العظم ، فالوطن كما يقول الشاعر النمساوي “فرانس سوبان”: “هو ما غنَّتْه لك أمُّك وأنت في رحمها”.
لكن “فرانس سوبان” يشاطر أحزان “بدل رفو المزوري” في جزئية من أحزانه مع الوطن في حالة “إن طردوه يوما” فعندها :
“سيلحق بك الوطن في العمق
في دمك”.
ما زلنا داخل أيقونة “فيتو أكونتشي” نتأمل سحر نَهْرِ “مور” ونعاتب أحمد رامي الذي لم يستبقِ شيئا لجراز ، رغم التسليم بأن فيينا فاتنة كقصيدته وأكثر.
ومع ذلك كان من الواجب ألَّا تبخس”جراز” أشياؤها ، فلها مع السحر ما يفوق فيينا في بعض الزوايا.
ولنتذكر أن العاصمة النمساوية فيينا تكاد أن تنسي زائرها بمرور نَهْرَ الدانوب بالقرب منها ، لكنها أهملته فتركته عند أطرافها لتتفرغ هي لسماع “الناي السحري” للنمساوي السالزبورجي “موزارت”
بينما فتحت جراز شرفاتها لتدع نهْر “مور” الذي يشقها كالخط الوسط في ورقة الموز فيسكب في أذنيها ما لم يكتبه بشر ولا اهتز به وتر.
وجراز حسب الشاعر “بدل رفو المزوري” : مدينة تتشبث بأبجدية القمر وبشوارع الأحلام ونوافذ القناديل”.
ما زلنا في المدينة التي ظلمتها الأغنية فنصعد تلة “شلوسبرج” عبر مصعد يرتفع بنا لقرابة نصف كيلومتر لمن لا يملك اللياقة.
وعبر سلَّم من ٢٦٠ “رفصة” لمن يتمتع بقوة العداء الجامايكي يوسين بولت.
والتلة لوحدها من الأعاجيب الجبلية التي شكلها الإنسان فهي تجمع بين برج الساعة الشهير والقرية الريفية المعلقة وشبكة الأنفاق المتعددة الاستخدام .
ويستذكر “الجرازيون” أهمية هذه الأنفاق يوم احتموا بها من غارات الحلفاء طوال الحرب العالمية الثانية إثر اصطفاف النمسا مع دول المحور.
ندخل تلة “شلوسبيرغ” عبر نفق بارد كالثلج رغم أن درجة الحرارة خارج باب التلة تلامس الثلاثين.
وينتهي الممر بمصعد كهربائي
يأخذنا عبر تجويف حجري إلى أعلى قمة في التلة حتى برج الساعة القادم من القرن الثالث عشر ليخضع لترميمات مع الزمن تبقيه حاضرا عبر القرون بطابعه القديم وبأجراسه السابقةبما فيها الجرس الأشهر المعروف بجسر النار.
أطالع الزمن الذي تكلس في ساعة البرج والحرفين الأوليين للإمبراطورة ماريا تيريزا التي نعرفها من قروش فرنس الفضية فتحضر في السياق شاعرة جراز “إنجيبورك “مار يا أور تنير” القائلة يوما:
“إن الزمن سيجيئ حين نكون نحن التاريخ”
وكانت جراز من أعلى تلة “شلوسبرغ” هي التاريخ القادم وهي محاججة أخرى لأحمد رامي عن مدينة ظُلِمَتْ وهي لا تقل أُنْسَاً ، فقمة التلة تمثل منتجعاً مطرزا بالمطاعم والمقاهي وزوايا الموسيقيين والرسامين وإضمامات ورود تضع جراز على هذه التلة كأكبر مزهرية.
ننزل لنستقل الترام من شلوسبرج حتى الساحة الرئيسية فنتوقف عند تمثال الأرشيدوق يوحنا ١٧٨٢-١٨٥٩م. الذي تدين له جراز بنهضتها الصناعية فما زال هناك من يتوافد لأجل صورة معه للتاريخ.
وبالجوار من هناك تفخر جراز التي ولدت عام ١١٢٨ لاحتفاظها بمبان من سلسلة عصور وحضارات بما فيها “عصر الباروك” وما تزال بحالتها الأولى كما تركها الأسلاف ، فالجدران بنفس الملح والأبواب تنتظر من يدير المفتاح والنوافذ تتهجد بتدخلات مارتن لوثر في المزمور ١٣٠ ، والسكك تتوحم على عودة خطوات من مروا ، ما يجعلها أقدم مدينة محتفظة بتفاصيلها على مستوى وسط أوروبا.
نزحف باتجاه الشرق لتطالعنا “بحْرة” دمشقية تتوسطها نافورة وديمة من ظل شجر دائم الاخضرار وأرائك خشب تتربع عليها سحنات عربية ونقطة ماء عذب للشرب موصولة بالنبع أشبه بالسبيل فيخرج المكان من قشرته الأوروبية إلى بقايا أمويي الشام والأندلس.
هنا يلتقي المقيمون في “جراز” من العرب ليعقدوا منتدياتهم الصامتة ويتشاطروا الشوق لمراتع طفولة فيها الكثير من “البحْرات” التي جففها الغياب ، والكثير من شجر النارنج الذي عصر نفسه فاحتضر.
نطالع البيانو كرمز في أكثر مولات البلدة أناقة وهو “K O مول” ويتكرر ذات البيانو داخل مطعم زعفران الإيراني بل وفي معظم البيوت والمحال فجراز كشقيقتها فيينا الجميلة تحب البيانو والرسم والشعر وتتفوق عليها بموسيقى الماء.
وقبل أن ننهي التسكع المتعجل في مدينة نراها لأول مرة جلسنا نتأمل مغيب الشمس يدلق حمرته في نهر “مور” ونردد مع شاعرة النمسا إنغبورغ باخمان :
“هناك شجرة خلف العالم
وفاكهة في الأعلى
بقشرة من الذهب
دعونا نلقي نظرة
عندما يتدحرج خريف الوقت
في يد الكون”.
——————-
جراز – النمسا- في ١٩ يونيو ٢٠٢٤م.

زر الذهاب إلى الأعلى