أقصر حرب في التاريخ (2).. ماذا بعد الحماية الألمانية ؟

الريامي
الريامي

بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي
مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)
أشرنا في المقال الفائت إلى أن الحادثة الدموية البشعة التي وقعت في قلب مدينة زنجبار، بتاريخ 27 أغسطس 1896م، والتي ألصق عليها، زورًا وبهتانًا، اسم “أقصر حرب في التاريخ”، هي في حقيقتها “عدوان بريطاني على زنجبار”، للأسباب التي أوضحناها. أشرنا أيضًا إلى أن الشيخ القاضي محمد بن سليمان المنذري، كان قد أمن للسلطان خالد بن برغش الحماية الألمانية؛ وأن قائد الحرس السلطاني، صالح مرمباجِني القمري هيأ له الخروج الآمن من تحت حطام بيت الحكم، إلى القنصلية الألمانية؛ لتنقله الأخيرة فورًا إلى دار السلام، التي كانت ما تزال مستعمرة ألمانية.
مكث السلطان خالد بن برغش في كنفِ الحماية الألمانية، في دار السلام، منذ 27 أغسطس 1896م، حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م، حيث عرض عليه قيصر ألمانيا – بعد أن مُنيت بلاده بالهزيمة، في سنة 1917م – الانتقال إلى برلين والعيش فيها مُعززا مُكرمًا؛ إلا أن السّيد خالد، آثر البقاء في ممباسا، حيث العُروبة والإسلام، بعد أن اعتقد خطأً أن فترة الواحد والعشرين عامًا التي مضت على نزاعه على العرش، وتحدِّيه للإدارة الإنجليزية، كفيلة بإسدالِ ستار النسيان على هذه الأخيرة؛ إلا أن تقديره خاب للمرة الثانية. فما أن خرج الألمان من دار السلام، بعد هزيمتهم في تلك الحرب الكونية، حتى وألقت القوات البريطانية القبض على السلطان خالد، ونَفَته إلى جزيرة سـانت هيلينا، ثم إلى جزيرة سيشل، في عام 1921م، وبقيَ كذلك إلى أن سَمَحت له الإدارة الإنجليزية، في عام 1922م، بالعودة إلى شرق إفريقيا، ولكن إلى ممباسا وليس زنجبار، بعد أن أَخذت عليه تعهدًا بعدمِ المطالبةِ ثانيةً بعرشِ زنجبار.
وللأمانة التاريخية، يُذكر أن الإدارة الإنجليزية ما كانت لتسمح للسلطان خالد بالعودةِ إلى شرق إفريقيا، إلا بعد أن تشفع له والي ممباسا، السير (Sir) علي بن سالم البوسعيدي، الذي تعهد أمام سعادة مُحافظ الإدارة الإنجليزية لكينيا المُستعمرة والمحمية – في العاصمة نيروبي – بأن تتسِم إقامة السيد خالد في ممباسا بالهدوء، وفي معزلٍ عن السياسة. وبذلك، فلقد انتهى مطاف السُّلطان الشاب في ممباسا، حيث عاش في هدوءٍ وأمان، إلى أن توفَّاه الله في عام 1927م، تاركًا وراءه من العقب، ستة أولاد ذكور هم: برغش، وعلي، وغالب، وقيس، وماجد وسعيد. رأى السير علي بن سالم، بأن شخص السلطان خالد بن برغش يستحق التكريم، حتى بعد مماته، فأمر أن يُدفن بجوار والده، الشيخ سالم بن خلفان، في مقبرتهم الخاصة في ممباسا، وفق تأكيد أحد أحفاد الأخير، الشيخ محمد بن بدر البوسعيدي.
سلطان يستعطف:
يُذكر في هذا الصدد، أن السفينة المقِلّة للسلطان خالد من منفاه الأول في سانت هيلينا إلى منفاه الثاني في جزيرة سيشل (جنوب شرق زنجبار)، رست في ميناء زنجبار للتزود بالوقودِ وخِلافه، فكتب السلطان خالد رسالة استعطاف طويلة إلى ابن ابن عمه، السُّلطان خليفة بن حارب، يلتمس منه التشفع له عند المقيم البريطاني، لإنهاء نفيه في بلاد الغربة، التي عانى منها الكثير، سيما وأن النفي لم يقتصر عليه فحسب، وإنما أسرته أيضًا، المُكونة من ثلاثة أولاد ذكور، لم تسمح لهم حالة النفي بإجراء عمليه الختان لهم بعد؛ وابنة واحدة في سن البلوغ؛ وخالته العجوز.

الوالي السير علي بن سالم البوسعيدي


واسترسل في استعطافه مُلتمسًا السماح لأسرتِه بالنـزول في ميناء زنجبار؛ وإذا كان لابد من استمرار حبسه، فليكن في زنجبار، أو في مزرعته في دار السلام؛ بدلاً من نقله من بلدٍ إلى آخر، وما يترتب عليه من ذُلٍ وهوان. وأنهى استعطافه بالإشارة إلى أنه كبر في السن، وشق عليه الترحال، بعد أن خارت قواه؛ وبات على استعدادٍ تام لطاعةِ الإدارة الإنجليزية، وتقديم الضمانات التي تُفرَض عليه. حُررت هذه الرسالة في شهر شوال 1339هـ، الموافق يونيو 1921م (راجع المغيري، جهينة الأخبار، ط3، ص 385). ومما يُذكر أيضًا، أن السلطان خليفة بن حارب، استشار المقيم البريطاني، فأشَارَ عليه بتجاهل أمر الرسالة، وعدم الرّد على صاحبها. وبهذا، غادرت السفينة ميناء زنجبار بالسلطان خالد وأسرته إلى منفاه في جزيرة سيشل.
وعودًا إلى ما أشرنا إليه من أمر العفو المشروط الذي حصل عليه السلطان خالد، والمقيد بالسماح له بالإقامة في ممباسا فقط؛ يشير لنا التاريخ، إلى أنه، في غضون العام التالي من الإقامة في ممباسا، طلب السلطان خالد من الوالي، السير علي بن سالم، أن يتشّفع له ثانيةً عند الإدارة الإنجليزية، لتسمح له بالسفر إلى تنجانيقا، بين الحينِ والآخر، لتغيير الجو؛ ولمتابعة شؤونه الخاصة هناك، ولتعثر نفسيّته في ممباسا، واشتياقه إلى رؤية المكان الذي عاش فيه لواحدٍ وعشرين عامًا، بعد العدوان الإنجليزي عليه؛ إلاّ أن السير علي بن سالم تلقى ردًا محبِطًا ومخيبًا لكثيرٍ من الآمال من الإدارة الإنجليزية في نيروبي، التي أفادت أنها حولت الالتماس إلى مُحافظ تنجانيقا، الذي أفاد بدوره: أن السلطان خالد لا يزال “شخصًا غير مرغوب فيه”. مضيفًا على ذلك بالقول: وإذا كانت حياته الآن في ممباسا متسمة بالكآبة وفقدان السّعادة، فإن ذلك مرده، كُليا، إلى خطيئته في الماضي، التي يجب أن يتحمّل عواقبها. (انظر: رسالة السكرتير الخاص لسعادة محافظ كينيا المستعمر والمحمية، رقم (M/1501)، بتاريخ 17 يناير 1923م، الموجّهة إلى العقيد سالكيلد (Col. Salkeld)، بالاعتذار عن عدم إمكانية الاستجابة للالتماس. وثيقة محفوظة في أرشيف كينيا بنيروبي، تحت رقم: (Pc/coast/1/21/320).
يُذكر، أن السير علي بن سالم، كان قد ضَمن رسالة التشفع هذه، التماسًا بأن يتمّ التّعامل مع ما بدر من السلطان خالد في الماضي، على أنه تصرف من تصرفات الشباب؛ ارتكبه نتيجةً لمشورةٍ سياسيةٍ غير سديدة؛ سيما وأنه ما كان، إذاك، قد تجاوز العشرين من عمره (الوثيقة السابقة نفسها).
تجدر بنا أخيرًا، الإشارة إلى أن اثنين من أبناء السلطان خالد بن برغش، عند وفاته، كانا لا يزالان قاصرين (11، 13 عامًا)، ومع ذلك، فإن انتقالهما للعيش في دار السّلام، حيث مُمتلكات والدهما، تطلب الحصول على موافقةٍ خاصة من تنجانيقا. هذه الموافقة، سعى لها الوالي السير علي بن سالم أيضًا؛ إلاّ أن تنجانيقا سمحت للأبناء القُصر فقط دخول أراضيها، دون البالغين (راجع وثيقة باسم: أولاد السيد خالد، رقم PC/Coast/1/1/237، الأرشيف الوطني الكيني).

زر الذهاب إلى الأعلى