ذات زيارة “للقابل الراسي بها الشأن”

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

سِيَّان أن تدخل من هذا “الصباح” قبل ثلاثة قرون وأكثر وأكثر.
أو تدخله اليوم ، أو بعد بعد بعد اليوم فللتاريخ نفس الرائحة وللعمائم ذات البهاء وللهامات ذات الشموخ.
وسواء أسرعتْ بك النجيبات المراسيل أو خبَّتْ بك سفائن العرب ، أو امتطيتَ ظهور “دواب” أوروبا وأمريكا أو اليابان فموعدك النهار الطويل الذي لا تأفل شمسه.
وسيستقبلك عند “صباح” الحصن حفيد الأماجد الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن عيسى الحارثي لتصافح في يديه الزمن العماني الغائر في الزمن.
وقبل أن يأخذ الشيخ “علومك” ستماشيه إلى “برزة” آبائه ومعكم قعقعة الخطوات لماشين تراهم ، ولماشين تسمع همهماتهم ولا تراهم.
ولن تتساءل عن مكان ووقت برزة الحصن فكل الحصن برزة مفتوحة على مسام الجغرافيا باتساع عُمان ، حتى الباب الخارجي يمد كراسيه عند ظلَّة الصبح ووقت الأصيل فيفتح قوساً لصفٍ من الكراسي فيكمل باب الحصن استدارة القوس لتدور الفوالة في الهواء الطلق ويتعالي صليل الفناجين.
وتحتويك هيبة المكان وجلاله وأنت تشق العباب ، فعلى كل شبر انتصبتْ ساريةٌ لبيارق اتشحتْ المجد.
وعند كل ظلة تزاحمتْ الأكتاف والأكتاف لأجل أمرٍ جللٍ استدعى “كلمة رأس” ف”خمير الرأي خيرٌ من فطيره”.
وتمشي وتمشي وعلى يمينك جلسة شتوية تهيَّبَ البردُ الاقتراب منها ففي جمر كلام الرجال ما يكفي لتَصْطلي به الفصول.
وتقودكَ سبلةُ الشتاء نحو سقيفة ضُرِبَتْ تحت جذوعها الوعود وقد بَرَّتْ ولم تُخْلَفْ.
وتواجهك سقيفةٌ ثانية ، ولطالما أُخِذَتْ فيها العهود وقد استُوفِيَتْ مُدَدُهَا ولم تُنْقَضْ.
وتطالعك سبلةٌ ثانية تدرَّعَتْ بالجص فسقيفةٌ أخرى فسبلةٌ ثالثة فأكثر من قصر في القصر ، وأكثر من حصن في الحصن ، وأطيب من مقام في المقام ، فأنت في بلدة داخل البلدة.
ويأخذك شيخ المكان إلى عين المكان حيث “برزة الحرث” التي ستستشعرها من لمعان “سيف الفرض” الذي يحمل النهار إلى داخلها لِيُسْتَغْنَى عن إسْراج ثريات الأسقف والحيطان.
ولن تكون بحاجة لفرضيات انتساب “سيف الفرض” إلى آل صالح أو آل حميد فهو في قبضة الجد الأول للبيتين الشامخين في القابل والمضيرب ، وهو وديعة معمَّدة بانتصارات اليعاربة في حروب ما وراء البحار.
ويتصدر معالي الشيخ محمد بن أحمد بن محمد الحارثي (أبو الفضل) برزة آبائه وقد ملأ المكان حضورا وحديثا واستشهادات من عيون قصائد العرب كأبيه وكجده.
وقد جلس على يمين معاليه سيدي الهلال بن سالم السيابي ليجدد جلسة سابقة تصدرها العملاق الشيخ أحمد بن محمد الحارثي وسيدي الوالد في ستينيات القرن الماضي وكان الهلال والبدر معه فالتاريخ لايغير رائحته ولا عمائمه.
فيما جلس على يسار حفيد البيت الحارثي الشامخ الشيخ سالم بن محمد العبري حفيد مشيخة عبرة بن زهران.
وأخذ الشيخان عبد العزيز بن سليمان بن خلف الخروصي وعبدالملك بن سليمان الخروصي موقعهما بما يليق بأبيهما وجدهما وجلست والأنجال خالد بن هلال والفيصل ومحمد والهيثم والشيخ محمد العبري في معمعة المكان وتلاطم بحوره وسفائنه.
ولم نكن وحدنا هناك ، فكل الذين تلألأوا في صفحات كتاب “تحفة الأعيان” للرضي نور الدين السالمي وكتاب “نهضة الأعيان” للشيخ محمد الشيبة وكتاب “الحرث عبر التاريخ” لحفيد فارس الشرفا الشيخ أحمد بن حمد بن سليمان الحارثي وكتاب “أصالة المجد” للأستاذ الدكتور سعيد بن محمد الهاشمي كانوا في البرزة الشامخة.
وكل الذين احتوتهم الصفحات التي زادت عن الألف في كتاب “قرية القابل” وفي كتابيْ “عز” و”المنزفة” للأستاذ يعقوب بن سعيد بن يحيى البرواني قد خرجوا من دفاف الكتب فلهم بين كل كريمين صدارة الجلوس.
وحضر البرزة أولئك الذين تكرروا في الوثائق السرية للشيخ محمد بن عبدالله الحارثي وفي كتاب “الشيخ عيسى بن صالح الحارثي” للأستاذ زاهر بن سعيد بن سيف السعدي.
وبعد العلوم والأخبار ينتابك الشعور الطاغي بأن قاضي الإمام سلطان بن سيف اليعربي قد دخل الحصن قادما من سفالة إبراء ليفتح جلسة التقاضي.
وأن صالح بن عيسى بن راشد قد هوى بالمسحاة الأولى ليرشد أهل “بلدة الأسود” ببدء شق فلج القابل.
وسيطال الأسماع دوي طلبة نور الدين السالمي بمسجد الشريعة فتكبيرات الأذان الذي يرفع من “المسجد الوسطي”.
وتتسكب ديمة الثريات فوق الرؤوس لتوشوشك بتأهب القصر لاستقبال صالح بن علي بن ناصر الحارثي العائد من بر الزنج.
ويقترب منك “المغنِّم” وقد سكب قشرية دلَّته في فنجانك فتشمّ ريح
عيسى بن صالح الحاضر بقوة في بيعة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي بمسجد السنود.
وتطالع وجوه الحضور لتتفرس النجابة في الذين يقتفون السير على خط الصلح يين الإمام الخليلي والسلطان تيمور ، فكل الأقلام التي تتشح “مناحر الدشاشيش” لها وشيجة مع مداد اتفاقية السيب.
ويطل من وميض المكان وجه محمد بن عيسى يعلوه البشر وقد هدأت على يديه أوضاع جعلان والكامل والوافي ووادي بني خالد
وفيما تزدحم البرزة بالأعلام عبر أكثر من ثلاثة قرون يتجدد الشعور بأن الذين يعج بهم المكان فنسمعهم ولا نراهم هم أضعاف أضعاف أضعاف من يقاسموننا رحيق الفناجين.
وكلما ران الصوت لثوانٍ سرعان ما يتهلل المكان فقد دلف الرضي نور الدين يسبقه عطره.
ويحضر الإئمة سالم بن راشد ومحمد الخليلي وغالب الهنائي على تعاقب عهودهم ليتواصلوا مع القابل كوجهة تنتهي عندها الدروب التي طرقتها خطوات الكبار من العلماء والزعماء والساسة والشيوخ والوجهاء
كما أفسحتْ عشب الضفاف لخيول ونوق مواكب الزعيم سليمان الباروني ولسيارات جيمس ريموند وتشونسي ودنيسن والطبيب طومس.
ونغادر المكان ولا يغادرنا المكان.
وتعود الأسماء التي صحبناها إلى دفاف الكتب ولا تعود.
لتبقى “القابل الراسي بها الشأنُ”
—————————
مسقط في ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤م.

زر الذهاب إلى الأعلى