دراسة أمريكية حول فنّي الرزحة والعازي في عُمان
د هلال الحجري
كاتب وباحث ومترجم عماني
قليلة هي الدراسات الأنثروبولوجية المتصلة بعُمان؛ ذلك أن جامعة السلطان قابوس والجامعات الخاصة لم تلتفت لأهمية علم الأنثروبولوجيا ولم تؤسس له قسما خاصا به كما هو شائع في جامعات العالم. ولهذا؛ فإن الدراسات الأنثروبولوجية العمانية حقيقة اضطلع بها باحثون أجانب خاصة من أمريكا وبريطانيا وإن كانت عمان هي الحقل الميداني لبحوثهم. ومن بين هذه الدراسات، أطروحة دكتوراه تنتمي للأنثروبولوجيا الثقافية بعنوان “قصائد للأيادي البيضاء: فن المديح والدولة في سلطنة عمان” قدمها برادفورد جارفي (BRADFORD J. GARVEY) لجامعة مدينة نيويورك سنة 2019. وحقيقة، أذكر الباحث أنه زارني في مكتبي حين كنت مديرا عاما للآداب في وزارة التراث والثقافة وقد استشارني في بعض أفكار البحث، ولذلك نوّه باسمي في صفحة (الشكر) كما نوّه بأسماء أخرى مثل مسلم الكثيري وفتحي محسن وغيرهما.معتمدا على مفهوم أنطونيو جرامشي للهيمنة الثقافية، تتبع الباحث أشعار المديح لفني “الرزحة” و”العازي”، والبنية الموسيقية للعلاقات الأخلاقية والاقتصادية والمادية والاجتماعية بين المجتمعات الريفية والدولة في سلطنة عمان. وهو يجادل بأن علاقات الهيمنة تتقنّع في صورة علاقات التزام متبادل تنشأ بين السلطة والطبقات الخاضعة لها من خلال عرض مجموعة معينة من الفنون التاريخية الذكورية. ويؤكد الباحث أن فن الرزحة يستحضر مفاهيم الحرب والرجولة والشجاعة والروابط المتبادلة التي يخلقها الدفاع عن النظام السياسي في خدمة ضمان استمرار النظام الاجتماعي الفعّال. وعلى نحو مماثل، يلجأ فن العازي إلى التأكيد الأسطوري الشكلي على الروابط المتبادلة التي تنشأ بين الحاكم الكريم وشعبه. ويقول برادفورد: “من خلال تأطير مشاريع الدولة التنموية على أنها كرم، يلعب المدّاحون دورًا حاسمًا في تطوير نموذج العلاقة الذي يضع الدولة في مرتبة المانح السخي، والشعب في مرتبة المستقبِل الممتن”.على هذا النحو من التحليل الأنثروبولجي يمضي برادفورد في دراسته التي تتكون من ستة فصول. الفصل الأول يقدم معلومات عن عُمان وموقعها وجغرافيتها ونباتاتها وحيواناتها والحياة الريفية ذات الصلة بدراسة الشعر الغنائي والمديح كممارسة سياسية اقتصادية. والفصل الثاني محاولة “لأخذ المديح على محمل الجد”، كما يقول الباحث، أي أنه تناوله بنفس العقلية التي يتعامل بها الشعراء والفنانون العمانيون؛ فالباحث يربط بين شعر المديح وممارسات السلطة السياسية في عُمان، ويزعم أن شعر المديح (خاصة العازي)، بعيدًا عن كونه مجرد أسلوب في الإطراء، يُعَدّ في كثير من الأحيان والأماكن أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على النظام الاجتماعي وإعادة تشكيله. وفي الفصل الثالث يربط الباحث شعر المديح بآلية اجتماعية يسميها “آلية الكرم والشرعيّة”؛ حيث أظهر أن الكرم (من بين العديد من الممارسات الأخرى) يُعَدُّ التزامًا مُهِمًّا للحُكّام العرب، بل هو دليل على نفوذ قيادتهم. يقول الباحث: “إنني أثبت أن الكرم ليس مجرد غرور أيديولوجي طوّرته الطبقات الحاكمة لغرض اكتساب الشرعية أو إخماد المقاومة السياسية، بل هو التزام أخلاقي عميق ومشترك بين جميع الناس على اختلاف طبقاتهم”. ينتقل الباحث في الفصل الرابع إلى الطرق التي يعمل بها فن (الرزحة) بصفته أسلوبا في مديح الكرم. ومن خلال الاهتمام عن كثب بالأفكار التي تشكل أداء هذا الفن توصل إلى أن الأداء الفعلي للكرم يُفهَم على أنه تأكيد على الفخر، والكرامة، والرجولة، والاستقلال، والرعاية المدنية، وغير ذلك من الحالات القوية والمُقدَّرة بشكل إيجابي. وفي الفصل الخامس، ينتقل الباحث إلى التفسيرات الفقهية الإباضية الممكنة للموسيقى خاصة الموسيقى الحربية وحاول أن يثبت مشروعية الموسيقى “إسلاميًا” بكونها مفيدة لغايات الدولة، وليس لغرس العقيدة الدينية أو الممارسات الشخصية لتشكيل الذات. وفي الفصل الأخير، ناقش برادفورد الطرق التي أصبحت بها فنون الرزحة والعازي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقوة الدولة في عمان، وأثبت دورها كمنعطف حقيقي في الاقتصاد السياسي لحكم الدولة العمانية، إذ أصبح المديح مركزيًّا يعزز مكانة القائد باعتباره مانحًا سخيًّا ومدافعاً قويًّا عن عُمان، مما يضفي الشرعية على حكمه.هذه الأطروحة مهمة في نظري وتقدم تفسيرا جديدا لشِعْرِ المديحِ على نحو غير معهود في النقد الأكاديمي الحديث الذي يزدري عادة شِعْرَ المناسبات، ويفرّغه من ديناميكياته الثقافية والاجتماعية المعقّدة.