القوة الناعمة: حين تصنع الكلمات ما تعجز عنه البنادق

قراءة في مفهوم القوة الناعمة وكتاب “قوة التفاوض” لعباس عراقجي
سيلينا السعيد
كاتبة لبنانية
في عالم يموج بالصراعات والنزاعات، لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لترجيح كفة ميزان القوى. لقد أصبحت “القوة الناعمة” أداة حاسمة في التأثير على السياسات والمجتمعات، مستندة إلى الثقافة، القيم، والإقناع بدلًا من الإكراه. ولعل من أبرز النماذج المعاصرة التي تجسد هذا المفهوم، كتاب “قوة التفاوض” للدبلوماسي الإيراني عباس عراقجي، الذي تم إطلاقه رسميًا خلال معرض مسقط الدولي للكتاب 2025، بحضور وزيري خارجية سلطنة عمان والجمهورية الإسلامية الإيرانية، في مشهد يعكس عمق العلاقة بين الثقافة والدبلوماسية.
القوة الناعمة: سلاح الشعوب الذكية
مصطلح “القوة الناعمة”، الذي صاغه المفكر الأميركي جوزيف ناي، يُشير إلى القدرة على تحقيق الأهداف عبر الجاذبية بدلًا من القسر. وتتمثل أدواتها في تصدير الثقافة والفنون والقيم الأخلاقية، إلى جانب الدبلوماسية الهادئة والإقناع الذكي. إنها القوة التي تغزو العقول والقلوب دون أن تطلق رصاصة واحدة.
في هذا السياق، يصبح التفاوض أحد أرقى أدوات القوة الناعمة، وهو ما يتجلى في مضمون كتاب عباس عراقجي الذي جمع خلاصة تجربته في التفاوض السياسي، لا سيما خلال قيادته للمحادثات النووية الإيرانية.
التفاوض… حين تكون الكلمة سلاحًا راقيًا
كتاب “قوة التفاوض”، الصادر عن دار هاشم في بيروت وترجمته الدكتورة فاطمة محمدي، يتناول ببراعة كيف يمكن للكلمة أن تكون سلاحًا حاسمًا، لا يقل أثره عن أقوى الجيوش. يعرض عراقجي مهارات إدارة التفاوض بذكاء عاطفي، وفهم دقيق لموازين القوى، مع التأكيد على أهمية القيم، الثقة، واحترام الطرف الآخر، لبناء مسارات سياسية ناجحة.
وجاء توقيع الكتاب في معرض مسقط للكتاب، بحضور رفيع المستوى من وزيري خارجية عمان وإيران، ليعزز دلالة أن التفاوض، شأنه شأن الثقافة، يمكن أن يكون جسرًا بين الشعوب والدول، وأداة فعالة لحل الأزمات وتوجيه مسارات التاريخ.
الثقافة والتفاوض: وجهان لعملة القوة الناعمة
بينما تُعتبر الثقافة ركيزة أساسية لجذب العالم وإقناعه بالنموذج الحضاري للدولة، فإن التفاوض يترجم هذا الجذب إلى إنجازات سياسية واستراتيجية ملموسة. فالثقافة تفتح الأبواب للقلوب، أما التفاوض فيترجمها إلى اتفاقات وسلام وتفاهمات طويلة الأمد.
وقد أوضح عراقجي في كتابه أن نجاح التفاوض لا يعتمد فقط على المهارة الفردية، بل على صورة الدولة ومصداقيتها وقوة رسالتها الثقافية والسياسية، مما يبرز أهمية التكامل بين جميع عناصر القوة الناعمة.
دروس للعالم العربي: إمكانيات كبرى تنتظر التفعيل
يمتلك العالم العربي ثروات هائلة من القوة الناعمة: من التراث الحضاري، إلى الإنتاج الأدبي والفني، إلى القيم الدينية والإنسانية الجامعة. إلا أن توظيف هذه الثروات بشكل منهجي ومدروس لا يزال في بداياته. وهنا يبرز دور التفاوض الذكي والدبلوماسية الثقافية كأدوات حاسمة لتعزيز موقع العرب على الساحة الدولية.
خاتمة: حين تتكلم الكتب نيابة عن المدافع
إطلاق كتاب “قوة التفاوض” في معرض ثقافي دولي كمعرض مسقط للكتاب، وتحت مظلة دبلوماسية رفيعة المستوى، ليس مجرد حدث ثقافي عابر، بل رسالة عميقة: أن المستقبل تصنعه الكلمة، لا الحرب، وأن الجلوس إلى طاولة الحوار أكثر جدوى من الوقوف على حافة الهاوية.
إنها القوة الناعمة في أنقى تجلياتها: أن تحكم العالم لا بالخوف، بل بالإقناع… لا بالسلاح، بل بالفكر.





