الإعلام الرقمي وثقافة المجتمع

خالد الشرقاوي السموني
مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية

تعرف المجتمعات اليوم ثورة إعلامية تجلت في التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية ، جعل العالم قرية كونية مفتوحة، وألغى كل المفاهيم التقليدية للحدود الجغرافية بين الدول. فقد تغلبت وسائل الاتصال الرقمي الحديثة على قيود الوقت والمسافة، كما انتشرت شبكات الاتصال، سواء الصحافة الإلكترونية والمدونات، أو مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفايسبوك و اللين كدين و الغوغل و الاكس، وغيرها، مما زاد بشكل كبير من فرص تنويع مصادر المعرفة والمعلومات وإتاحتها لكل الشعوب، وقدرتها على التأثير في الثقافة ومضامينها إيجابا أو سلبا.

وقد أدى نمو وسائل الاعلام الرقمي وتطورها السريع إلى تغيرات في ثقافة المجتمع ، وأصبح من الممكن الآن أن تكون المادة الثقافية متاحة للجميع على شبكة الإنترنت، وأن تنعقد العلاقات والصلات الثقافية بين الشعوب. فانزاحت الحدود الجغرافية والفواصل التي كانت تعيق الاتصال الثقافي واللغوي وانقضى عصر العزلة.

فضلا عن ذلك، فإن التكنولوجيا الجديدة لوسائل الاتصال والإعلام الرقمي قدمت خدمات جليلة للثقافة، فأتاحت الفرصة لأفراد المجتمع و الشعوب للتواصل فيما بينهم ، ونيل حقهم من الثقافة متعددة المصادر. وفي الوقت نفسه، ساعدت هذه التكنولوجيا ، ذات المصدر للغربي ، على التأثير في خصوصيات ثقافة بعض المجتمعات المحلية ، بسبب الفجوة التي حصلت بين الدول المتقدمة التي تمتلك تلك التكنولوجيا والدول النامية التي تفتقر إليها.

فالثقافة المسيطرة الآن ، هي ثقافة الأقوى، ثقافة كل من يملك وسائل الاتصال الرقمي الحديثة القادرة على خلق اختراق حقيقي للثقافات المحلية لصالح الثقافة الغربية . فمثل هذه الثقافة تنتشر وتسود على حساب ثقافات محلية عديدة.

ولذلك، فقد أصبح العالم يواجه الكثير من الإشكالات المعاصرة نتيجة التطورات الهائلة لتكنولوجيا الاتصال والإعلام، حيث حصل صدام بين الثقافات المحلية والثقافة العالمية (الثقافة الغربية على الخصوص) وحصلت انعكاسات على منظومة القيم، وأنماط التفكير، وأساليب الحياة، بل سادت أحيانا ثقافة الهيمنة من قبل الثقافة الغربية على الثقافات المحلية، في الوقت الذي يجب فيه على الإعلام الرقمي المساهمة في نشر ودعم الموروث الثقافي المتعدد للدول، نظرا للأدوار التي قد يلعبها الإعلام في تعزيز الاتصال الثقافي، وبناء علاقة تكامل وانسجام بين الثقافات المتعددة.

لكن هذا لا يعني أن تبقى الثقافة المحلية (الثقافة العربية كمثال) حبيسة الخصوصية الضيقة التي ترفض التفاعل والتلاقح مع الثقافات الأخرى. فالتخلف أو الانكماش الثقافي في بعض المجتمعات سببه عدم مواكبة وسائل الاتصال الحديثة والتطور المعرفي والتقني وتجاهل بناء ثقافة الإعلام الجديد المنفتحة والمتجددة التي تتطور بشكل سريع.

فالمجتمعات الآن، ذات الخصوصيات الثقافية، تواجه تحديات مختلفة تفرض عليها أن تغير منظومتها التربوية والتعليمية لمواجهة تحديات الإعلام الرقمي، والتطور السريع للمفاهيم الثقافية والنظام الثقافي والسلوكي بشكل عام، والتحولات اليومية التي يعرفها المحيط الخارجي بسبب ثورة الإعلام الرقمي أو الإعلام الرقمي .

ومن زاوية أخرى، فإن الحوار بين الثقافات والشعوب واحترام التنوع الثقافي باعتباره تراثاً مشتركاً للإنسانية، يقتضي زيادة التفاعل بين الثقافات، لأن التحدي الكبير الذي تواجهه الثقافات المحلية يكمن في القدرة على التواصل مع المحيط بغض النظر عن الاختلافات الثقافية. وهنا يأتي دور وسائل الإعلام التي بإمكانها أن تضطلع بمهمة الوسيط في حفز التقارب بين الثقافات وتكاملها، عوض تناحرها أو هيمنة البعض منها على الآخر.

ولا ريب أن استخدام الإعلام الرقمي بهدف فسح المجال أمام مختلف الثقافات للتعبير عن نفسها بكل حرية أمر حتمي لترسيخ أسس التفاهم بين الشعوب والحوار بين الثقافات، لأنه يمتلك القدرة على تيسير هذا الحوار بين الثقافات وتجاوز التصورات النمطية الموروثة، وتبديد الجهل الذي يغذي سوء الظن بالآخرين وينمي الحذر منهم، ومن ثم تعزيز روح التسامح والقبول بالاختلاف.

ونشير أيضا في هذا الخصوص إلى أن وسائل الإعلام الرقمي يمكن لها أن تلعب دورا في تعميق الخلاف بين الثقافات أو في تقريب وجهات النظر ومد الجسور بينها، بما يعزز التفاهم والتناغم على نحو أفضل.

وإذا كانت بعض الدول الصناعية تريد، عن طريق تقنيات الاتصال الحديثة والمتطورة، تحويل الثقافة إلى تجارة وإفراغها من مدلولاتها المعيارية بغرض الهيمنة، حيث تصبح رهينة في أيدي هذه الدول وشركاتها الكبرى، يتم توظيفها في تغيير الأفكار والعادات والسلوك الاجتماعي للسيطرة ثقافيا ثم اقتصاديا على المجتمعات، فإن ذلك لن يخدم الثقافة بصفة عامة وقد يساهم في الغزو الثقافي الذي يزيد في حدة الصدام الحضاري.

زر الذهاب إلى الأعلى