نبض طبيب: فـي أرخبيل النسيان

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

ستلُوح لك ذاكراتك كنازحٍ هجَر من مواطن الصِّبا إلى منفَى صحراء من العدم بضوضاء ووحشيَّة في زنزانة الكهولة، يستوطنُك الضَّياع، وتجدُ نَفْسَك في المنفَى بلا تاريخ وبلا هُوِيَّة.. نحن نتآكل بمرورِ الزَّمن، خلايانا العصبيَّة الَّتي كانت يومًا ما مصدر قوَّة عقلِنا وإبداعه، تُصبح أعداءً صامتة تسرق منَّا ما بُنِيَ على امتداد عمر، لا يُمكِن لأحدٍ أن يتوقعَ متى وكيف يحدُث هذا؟ فقد تأتي هذه اللحظة فجأة دُونَ سابق إنذار تبدأ رحلة السقوط في هاوية النِّسيان، حيث يفقد الإنسان أغلى ما يملكه ذاته وذاكرته.تكاثفتِ الغيوم حَوْلَ سماء عقلها، اضطراب الذَّاكرة يأتيها كزائرٍ خفيف، لا يأتيها إلَّا وتجد نَفْسَها تائهةً تحاول العودة إلى المنزل، تبحث عن كلمات ضاعت مِنْها في لحظات ضعف، بدأت تتسلَّل إلى حياتها، تفتَّتَ شيئًا فشيئًا، كُلُّ ذلك البناء العظيم الَّذي شيَّدته طوال السَّنوات.. قضَتْ ليلةً كاملةً في منأى يلفحها لظى فقدان نَفْسِها، فقدان القدرة على العودة إلى البيت، وفقدان الذَّاكرة… بحَثَ عَنْها أبناؤها ولم تَعدِ السَّماء تستوعب حجم صلواتهم المُبعثَرة، يجوبون الشَّوارع والأزقَّة في رحلةٍ تنزف قلوبُهم حرقةً وخوفًا وكأنَّ الليلَ قد تآمرَ ضدَّهم، وانتُزعت الحياة مِنْها، حتَّى عثَرُوا عَلَيْها في نهاية المطاف منهكةً في ظلامٍ حالكٍ اشتدَّ فيه الحَرُّ، جالسةً بجوار السُّوق القديم… لا أقسَى من أن تتلاشَى الكلمات فتظلَّ حائرًا في صَمتٍ عميق تلاحق أطياف معانٍ فرَّت مِنْك إلى مجهول النِّسيان.

ما إن رأتْ ابنَها الأكبر بادَلَتْه النَّظرات وقالت: «أشعُر أنَّني أعرفُك، ولكنَّني لا أستطيع أن أقولَ مَن أنت؟!! في لحظتِها أدركَ بأنَّ الخفافيش اغتالتْ أميرةَ الحكاية، يتأمَّلُ عَيْنَيْها ويبحث عَنْها… شاخَ قَلْبُه فجأةً، وكثُرتْ تجاعيدُه من ثقلِ أن تنكمشَ روحُ امرأةٍ ترعرعَ في أحشائها تسعة أشْهُر، وعاشَ ما تبقَّى من حياته بَيْنَ دفَّتَي أحضانها وبريق عَيْنَيْها.. ها هو بقلبٍ مفخَّخٍ بالجراح والنَّدبات يرتمي في أحضانها لِتبتلعَه الحياة بحقدٍ وغدرٍ… خيبةُ أملِه تهزم كُلَّ التوقُّعات، ولا يملكُ رفاهيَّة إظهار هشاشته للملأ، يعيش معها فصولًا من الانهيار، شاهدًا على انطفاء روحها ببطءٍ، عاجزًا عن تخفيف آلامها وهي تنسحبُ تدريجيًّا من حياتهم، تاركةً وراءها فراغًا لا يُمكِن مَلْؤه.

بدأَ الخرَفُ يدبُّ في عقلِها كقذيفةٍ حمقاء، نسفَتْ مِنْها كُلَّ ما كانتْ تملكه، توارتِ النُّصوص من ذاكرتها، وتركتها أسيرةً لعجزِها، مكبَّلةً بحتميَّاتٍ صارمة، تتهاوَى في غياهبِ بحْرٍ لا قاعَ له، يُصبح فيه الماضي غريبًا، ويغدو الحاضرُ مُبهمًا، والمستقبل مفقودًا.. تحدقُ بمقلتِها في وجوههم تشعُر بأنَّها تُحبُّهم بعُمقٍ، لكنَّها لا تعرف لماذا؟ هذه الأرواح الَّتي كانت جزءًا من كيانها أضحتِ الآن غريبةً، خذَلَتْها بلا مُقدِّمات عصبونات عقلِها، ولكنَّها ما زالتْ تجدُ المشاعرَ منزويةً في ركنٍ ضيِّق من الذَّاكرة، مثقلةً بتفاصيل مُحيَتْ بَيْنَ أرخبيل النِّسيان، تُكابدُ الأيَّام وجعًا بوجعٍ، وجرحًا بجرحٍ بمشاعرَ ضبابيَّة، وبلا معالِم واضحة.العمر ليس مجرَّدَ رقمٍ عابر، بل هو مسار الأيَّام الَّتي تنسحب بهدوء هو اضمحلال الجسد وشيخوخة الروح، لذلك عيشوا بحكمةٍ ولا تُقلِّلوا من شأن ما يتركه الزَّمن على ملامحكم وكياناتكم ورغباتكم.. ففقدانُ إدراكِكَ الحسِّي يجعلُكَ أكثر حساسيَّةً، وستصفعُكَ الحياةُ بقوَّة، فترتطم بالأرض وتتهشَّم وتتناثر كالشَّظايا.

مرَضُ الخرَفِ يَسير بها ببطءٍ نَحْوَ الغيابِ الكامل، تاركًا وراءه ظلالًا من حياتها الماضية.. ذلك الهَمْسُ للمجهول الَّذي يُربكُ اللَّيل بثقلِ الهواجس، ويُشتِّت روحًا تتآكل بعبثيَّةٍ وقلبٍ أصابَتْه الهشاشةُ في وسط أرض تمتدُّ فيها جذورها، تتدهور ذهنيًّا فتتصدَّع لهَا جدران النَّفْس، وتتناثر أشلاء فتهوي في لمحِ البصر… تهربُ مِنْها الكلمات لِتختبئَ بَيْنَ جدائلِ شَعْرِها على ضفاف الأسَى والمعاناة، لم تكُنْ تعرفُ مَن هُمْ أولئك الَّذين يحيطون بها، لكن يسطعُ الله نورًا في قلبِها حبًّا وإن نسِيَتْ تفاصيلَهم ما زالت تدثِّر الحروف برداء الأمل، وبروح توَّاقة بحنين للأرض والأحبَّة وبمعالم متشبِّثة بالذَّاكرة.. ورغم كُلِّ هذا التَّشويش تبقَى هناك لحظات لا تحتاج لفهمٍ بقدرِ ما تحتاج لإحساسٍ.

طبيبة وكاتبة عمانية

المصدر: جريدة الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى