الإستهلال بين الحاضر والماضي

الزمان : الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين
المكان : مطرح (سطح دارنا)
بقلم : د حسن الموسوي
ذكريات مقتضبة
كانت لنا الأطفال في هذه الساعات الاخيرة من هذا الشهر الفضيل عادات موروثة جميلة تركها الأباء والاجداد لنا الصغار . ومن هذه العادات الطيبة هي استهلال شهر رمضان وهلال شهر شوَّال إيذاناً لعيد الفطر المبارك .
أتذكر جيدا وما زالت الذكرى طرية في ذاتي التي لا تزال تسري في كل خلية من خلايا بدني وان تعاقبت عليها العقود وفي هذا السن المتقدم شيئا من العمر .

كنت وبصحبة الاصدقاء وبكل شوق نرتقي على سطح بيتنا ذي الطابقين والذي لم يكن يستره جهة الغرب اى عائق من منزل او جبل او شجر ؛ كما أن الجبال في موضع غروب الشمس كانت اقل ارتفاعا من الجهات الأخرى ؛ لذا فكان الشفق واضحا لنا جميعا من سطح دارنا .
كانت السعادة تغمرنا جميعاً ونحن نعيش الدقائق الأخيرة من غروب شمس شهر رمضان وكانت لحظات تفاعل عظيمةٍ بين الأفق وبيننا نحن الصغار وكأننا جزء من ذلك الأفق الغامض والخفي بعد لأنظارنا . وعند حلول اول الظلمة كانت تشتد نظراتنا وعيوننا بارزة من مواضعها الى الى اللقاء بالضيف الكبير علينا جميعاً ؛ فتارة كنّا ننظر الى اعلى الأفق والى اسفل منه وثم اليمين واخيرا جهة اليسار لعلنا نحظى ونكون اول من رأى وجود الهلال الشوالي .
وكم كنّا نعيش لحظة رغيدة لا يمكن التعبير عنها اذا ما رأينا الهلال متألقاً في السماء ؛ فكنا نردد اهازيج الفرح لا تنقطع . وتكون الدشداشة والنعال والكمّة كلها فرحة كذلك لفرحنا ؛ وعبق الثوب الجديد والنعال الجديد وحتى الكمّة كان يسري في خلايا عروقنا وجلودنا وشعرنا .
حقاً كانت كلها لحظات حيةٌ كنّا نعيشها في ذلك الزمن الذي لم يعد لنا اليوم منه شيئا من الأثر ؛ غير الجلوس بين الجدران وفي راحتنا نقلب اعيننا في الشاشات الصغيرة بدل السماء الواسعة التي كانت تستمتع اليها عيوننا بل ارواحنا أكثر .
لقد فارقنا الإرث الجميل وبدلنا مكان ذلك الأجهزة الحديثة التي اكلت الكثير من الإرث القديم ؛ التي يأتي يوم لن يكن لاحفادنا شئٌ من الحظ ابداً .