الرائدة التنموية ليلى بنت محمد بن سالم المسكرية.. وداعاً

بقلم د / محسن الكندي

رَحَلَتْ عن عالمنا أمس المرأة المحورية في مشروع تنمية المجتمعات المحلية ، الرائدة ليلى بنت محمد بن سالم المسكرية مُسَجِّلةً بذلك ريادةٍ تاريخيةٍ محليةٍ غير مَسْبُوقة في مشاركة المرأة في التنمية الحديثة على الأقل في محيطنا المجتمعي ولاية إبراء وما حولها ممَّا جعلها أنموذجاً للمرأة العُمانية المتقدمة على كثير من زميلاتها فكراً وممارسة ، عملاً وأداء .
لقد اتسمت هذه المرأة الأصيلة بشجاعة وجرأة في شَقِّ طريقٍ غير مُعَبَّد للمرأة المحلية الريفية منذ عملها المبكر عام 1979 في برامج ذلك المشروع التنموي الهادف إلى انتشال المجتمع ممَّا ران عليه من أشكال الارتهان ومتاعب الحياة وما ساد فيه من أشكال الجهل والتخلف ، والسيطرة المطلقة للقوى والسُّلَط المجتمعية المغلقة وهيمنتها على الشخصيات الخارجة وقتها من أتون منظومة سياسية وقيمية لا تَعْرفُ إلا ثقافة الرجل وحضوره الكارزمي المُطْبِق على كلِّ شيء .. إنها بامتياز نموذج مُشَرّف للمرأة العُمانية الواعية المستنيرة التي اخترقت كلَّ تلك الحواجز بامتياز لترسم قيمة جديدة مضافة لمشاركة المرأة العُمانية وإثبات دورها التاريخي المشرق في تنمية المجتمعات المحلية ، وتستحقُ بذلك – اليوم – أن يُسَجَّل باسمها اسم منشأة مجتمعية ، أو مدرسة تربوية ، أو جمعية نسائية..
تُذكِّرني وفاتها اليوم – وهي خسارةٌ فادحة لا محالة – بدورها الهام الذي بذلته مع رفيقاتها رائدات التنمية في الزمن التحولي الصَّعب حينما كُنَّ يَجُبْنَ القرى والأرياف بحثاً عن ضوء جديد في نفق المجتمع الطويل سُلّمه ، العصيب اختراقه ، فكانت بشخصيتها الوثابة ، وحماسها الشديد شعلةَ نشاطٍ ومنبرَ تنوير ، وأفقَ إصلاح لا ينتهي ، أو قل لا يرضى إلا بتحقيق المآرب السَّامية ، والغايات الرفيعة الخلاَّقة وأحسبُها نجحت .
لقد امتلكت الرائدة ليلى المسكرية – رحمها الله – قدراتٍ فائقةً في التعريف بالتنمية والتطوير المجتمعي روحاً وعقلا قلباً، وقالباً قبل كلّ شيء ، وكان حديثها عنه حديث المؤمن الواثق الشغوف ، الصَّادق ، ولغتها فيه منسابة بلا توقف ، تحدوها في ذلك ثقافة غير يسيرة وحماسٌ منقطع النظير ، وتدفعها أواصلُ أهداف عُمانية محضة آمنت بها وارتقت بها إلى مصاف خدمة الوطن العزيز ، وكان شعارها العمل الدؤوب الدائم الذي لا ينتهي ، فكانت المحرّك الفعلي لكثير من البرامج التنموية وخاصة برامج المرأة والطفولة والتعليم النظامي بغية تنشئة الأجيال وخلق الوعي والاستنارة الفكرية ، وقد استقت منابعَها من رؤى متقدِّمة أرست دعائمها النهضة الجديدة بفكر متقد للقائد الباني السلطان قابوس رحمه الله .
أخلصت الرائدة ليلى بنت محمد لعملها أيَّما إخلاص ، فكانت في أغلب زياراتها الميدانية للقرى وأعمالها التنموية فيها تطمح إلى التغيير المجتمعي وانتشال العقول وإخراج المرأة من جهلها المطبق إلى آفاق تقبل العلم الحديث ، والنور السَّاطع بفضل ما نادت به الحكومة من إصلاحات طالت بنى المجتمع العميقة ، فكم من امرأة اقتنعت بأطروحاتها ، وكم من فتاة خرجت إلى التعليم النظامي بفعلها ، وكم طالب صغير استرشد بتوجيهاتها ، ويحسب لها مع زميلاتها اللاتي عرفتهن في تلك الفترة فتح فصول محو الأمية للكبار وخاصة النساء ، وتنشيط مدارس القرآن الكريم ، ودعم مكتبة الراشدين وتفعيل المبادرة المجتمعية المعنية بأعمال التطوع ، وفتح الأفق نحو تكوين قاعدة نسائية تضطلع بخدمة الأجيال وبناء الأسر السعيدة ، وقد انبثقت عنها فيما بعد جمعية المرأة الحالية ، تلك الجمعية التي أرست دعائم كثيرة مما نراه اليوم متحققاً في محيط مجتمعنا المحلي .
قُدِّر لي أن أعمل مع ذلك الفريق كطالب صيفي متدرب بدءًا من عام 1981 وحتى عام 1983 ، وأن أرى بأم عيني ما تقوم به تلك المرأة الشابة الوقورة وزميلاتها وزملاؤها من إقناع سيدات المجتمع بقبول مسارات الحضارة الحديثة ، وطوارئ العصر ، فكانت زياراتها الميدانية لقرى الولاية متوالية لا تتوقف بل لا تكلُّ فيها ولا تمل ، فمتى قرر لها برنامج الزيارة لا تتخلف عنه مهما كانت ظروفها ، ومتى رسم لها خيط بدءِ الانطلاقة لا تتردد في الشروع فيه ، فتراها تجتمع بسيدات المجتمع في كلّ قرية ، وتقيم الأنشطة لهن، وتدرب الفتيات في مشاغل وورش تطبيقية، وتدعو إلى قيام منشآت تنموية ، وترفع بعد ذلك تقارير إلى جهات الاختصاص الرسمية توضح فيها حاجة كل قرية من وسائل التنمية .. إنها عين البرنامج الراصدة ودليله ومشرفته وأداة تنفيذه في كثير من الأحيان .
يتراءى لي بعد هذه السنوات الطوال حضورها اللافت بمعية زميلاتها وتنقلها بين أرجاء قرى الولاية المختلفة في جولات ميدانية فتحيط بهنّ سيدات المجتمع في احتفاليات لا تخلو من دروس في التثقيف النسوي والتربية الخاصة ورعاية الأطفال ، والاهتمام بذوي الإعاقة والعجزة واليتامى والمعوزين ، وكافة فئات المجتمع وطبقاته.. يتراءى لي ذلك المشهد البانورامي فأكبر فيها وزميلاتها مساعيهن الحميدة في وقت كانت النظرة تؤول إلى اعتبار المرأة مكانها المنزل ودورها التربية ولا شيء سواهما..
لا يعرف جيل اليوم كثيراً عن مكانة هذه المرأة وقَدرَها، فقد كسرت حاجز الحضور الكارزمي للرجل ، واقتصاره عليه ، في بادرة لا يثمنها إلا من أوتي بسطة في فهم عقليات المجتمع التقليدي ومن عرف مكانة المرأة التاريخي ، فهي الدليل الواقعي لمشروع التنمية المحلي وهي الشارح التطبيقي لمفردات المشروع ، وهي المبادرة الأولى في صُنع برامج التنمية ، إنها بمثابة المحرك الفعلي للتفكير والتدقيق فيما يصلح لمجتمعها أو لا يصلحه ، عاصرتُ ذلك بنفسي وهي تناقش وتحلل وتقدم الحلول متصدرة اجتماعات فريق التنمية بسمتٍ وثقة واقتدار ورزانة لا يحدها حدود .
كانت الرائدة ليلى المسكرية الاسم الأبرز والأكثر سطوعاً في ألْسنة أمهاتنا ، ويكاد من فرط حضورها ومكانتها تحظى بمكانة التقدير اللامتناهي ، فهي الأخت للصغير، والبنت للكبير ، الحالَّة لكثير من المعضلات ، المؤتمنة على أوضاع الأسر المعدمة ، فمن أراد أن يقدم مشروعاً فعليه بها ، ومن أراد وظيفة نسائية لابنته فيقدم طلبه إليها لترشده ، وهي المرشدة والموجهة تمدّ يدها بسخاء في حدود ما تستطيع ، تقدر النساء وتنزلهن منازلهن وهي الوجه المقبول المألوف البارز في كل محفل نسوي محلي.. إنها أيقونة المرحلة المجتمعية آنذاك وقيمتها تكمنُ في تقبلها للآخر وانفتاح عقلها رغم خروجها من بيئة محافظة .
إن هذه الجهودَ وإن غابت عن أنظارنا فهي باقيةٌ في سِجل التاريخ مصادرها أراشيف الوزارة التي عملت فيها الرائدة ليلى لأكثر من عشرين عامًا ، فتاريخ بعض مشاريع تنمية المجتمعات المحلية في الأرياف والأقاصي والقرى محفوظة فيها موقّعة في محاضرها باسمها . ويكفي أن نرى اليوم الصورة المثلى التي بدت عليها بعض سيدات المجتمع من تقدم وما آلت إليه المرأة من ازدهار.. إنها إحدى صانعات التنمية الجديدة ورائداتها في ولاياتنا العامرة .
أكْبرُ في الراحلة قوة شخصيتها وأخلاقها العالية وقدرتها على التفكير البنّاء والحوار وعدم الاكتراث بما يدور حولها من عراقيل وأقوال مغرضة ، فقد كانت معتدة بذاتها وقورة شامخة تقوم بدور فعّال في خدمة المجتمع فظلَّ اسمها مرتبطاً بوظيفتها السامية وهدفها النبيل ، واليوم حين نودعها إلى مثواها الأخير إنما نفقد اسما نسائيا مؤثراً في محيط ولايتنا، فكم كان لخطى فكرها المتقدم ألف رسم ورسم ؛ لهذا لا نقولُ وداعاً، فالمخلصون باقون في ذاكرة التاريخ لن تمحوهم عرباته الهدّامة والعاقبة لمن اتقى .
رحمك الله أيتها الراحلة السعيدة المنجزة المُخلصة ، وأثابك عمَّا بَذَلتِه في خدمة وطنك عُمان في أحلك الظروف وأصعبها الجزاء الأوفى ، فما جزاء المخلصين إلا الخلود في جنات النعيم .

زر الذهاب إلى الأعلى