آفاق الاقتصاد العماني في ظل رؤية عمان 2040

د. ابراهيم عاكوم*

خبير اقتصادي المدير العام / المعهد الدولي للتدريب الحديث

تم مؤخرا نشر وتداول قائمة تبين توقعات صندوق النقد الدولي لنمو اقتصادات بعض الدول العربية، ومنها سلطنة عمان. وتضع توقعات الصندوق سلطنة عمان على رأس قائمة هذه الدول المختارة من ناحية النمو الاقتصادي المتوقع لعام 2024م بنحو 5.2%، الأمر أثار استغراب البعض، وتشكيك البعض الآخر بصحة هذه البيانات. إضافة إلى ذلك، أقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي تقييمات وآراء حول الاقتصاد العماني وحول السياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها السلطنة خلال السنوات القليلة الماضية. وأود في هذا السياق توضيح بعض المفاهيم الاقتصادية التي يتم استخدامها وابداء رأي شخصي من وجهة نظر اقتصادية علمية بحتة.أولاً، إن توقعات النمو المذكورة هي فعلاً توقعات صندوق النقد الدولي ويمكن لأي مهتم أن يراجعها على الموقع الرسمي للصندوق، ولقد تم نشر آخر بيانات محدثة خلال الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في شهر إبريل 2023م. وتبنى هذه البيانات والتوقعات على أسس وعوامل متعددة ويتم تحديثها مرتين في السنة لكي تأخذ بعين الاعتبار المستجدات العالمية والتطورات الداخلية لكل دولة.ثانياً، يبدو بأن هناك خلط لدى البعض بين مفهوم النمو الاقتصادي، من جهة، وبين حجم الاقتصاد وقوته، من جهة أخرى، حيث أن البعض استغرب كيف يكون معدل النمو الاقتصادي في السودان أو مصر أعلى من معدل النمو في قطر. ولا بد من التوضيح هنا بأن معدل النمو الاقتصادي الحقيقي الوارد في القائمة للدول المذكورة يعكس حصراً التغير في حجم الاقتصاد الوطني من سنة إلى أخرى، وهذا مؤشر اقتصادي متغير حسب الظروف الداخلية والخارجية التي يتعرض لها الاقتصاد. وبالتالي، إن هذا الترتيب لا يصنف الدول حسب حجمها أو قوتها الاقتصادية بل يقيس فقط معدل النمو خلال سنة محددة.لذا، إن هذه التوقعات لا تعني بأن الاقتصاد العماني هو أقوى من الاقتصاد الأميركي أو الاقتصاد الصيني أو اقتصاد سنغافورة التي تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى أن معدلات النمو الاقتصادي فيها ستكون في عام 2024م 1% و4.5% و2.1%، على التوالي. وكذلك، هذا لا يعني بأن معدلات النمو في سلطنة عمان ستتصدر القائمة دائماً وستكون أعلى من معدلات الدول الأخرى، أو أن ترتيب الدول في هذه القائمة لن يتغير كل سنة. وبالفعل، تشير توقعات صندوق النقد الدولي نفسها والواردة في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي إلى أن معدل النمو الاقتصادي في عُمان لن يتصدر القائمة ولن يسجل أعلى نسبة نمو حقيقي بين دول مجلس التعاون في العام التالي، أي في عام 2025م، بل سيتصدر القائمة الاقتصاد الاماراتي بنحو 4.0%، يليه الاقتصاد القطري بنحو 3.3%، في حين يأتي ثالثاً الاقتصاد البحريني بنسبة نمو تبلغ 3.2 في المائة.وبكلمة أخرى، إن التغير في معدلات النمو الاقتصادي في دولة ما من سنة إلى أخرى تحدده عوامل متعددة منها عوامل خارجية دولية مثل النمو الاقتصادي في دول الشركاء التجاريين وأسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية، وعدم الاستقرار العالمي كما رأينا من تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، إضافة إلى تداعيات عوامل أخرى مثل تداعيات جائحة كوفيد-19. هذا إضافة إلى التطورات الداخلية للدولة والتي تشمل السياسات التي تتبعها الدولة وحجم الاستثمارات والبرامج التنموية للقطاع الخاص والقطاع العام، وغيرها من العوامل.فعلى سبيل المثال، من الطبيعي أن تكون توقعات النمو الاقتصادي مرتفعة في السودان في عام 2024م لأن الحركة الاقتصادية والعمرانية والتجارية سترتفع بشكل ملحوظ على أعقاب الحرب الدائرة حالياً والتي من المتوقع أن لا تستمر إلى عام 2024م. وهذا منطق وتحليل اقتصادي واقعي، وسيتم تعديل هذه التوقعات بطبيعة الحال في حال تغير هذا الافتراض وظهر أن هذ الحرب ستطول. وبطريقة مماثلة، يقوم صندوق النقد الدولي بقياس التوقعات لكل دولة على حدة بناء على مجموعة من الافتراضات الخاصة بهذه الدولة والمبنية على العوامل الخارجية والداخلية التي من المرجح أن تؤثر على معدلات النمو الاقتصادي فيها خلال فترة محددة.وبالنسبة لسلطنة عمان تحديداً، لا شك أنها شهدت تقدماً بارزاً في كافة المجالات الاقتصادية والمالية خلال السنوات الثلاثة الماضية، سواء من ناحية خفض الدين العام أم تحقيق التوازن المالي أم التحسن الملحوظ بمستوى التقييم الإئتماني، ناهيك عن تبني عدد من برامج الحماية الاجتماعية الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطن، والتي تضمنت منافع الحماية الاجتماعية ومنفعة كبار السن ومنفعة الطفولة ومنفعة الأشخاص ذوي الإعاقة ومنفعة الأيتام والأرامل ومنفعة دعم دخل الأسر.وبطبيعة الحال، يمثل هذا الانجاز خطوة متقدمة ضرورية باتجاه التغلب على التحدي الأكبر وهو تعزيز دور القطاع الخاص في قيادة العملية التنموية وإيجاد فرص عمل كافية ومجدية للباحثين عن عمل وعلى رأسهم الخريجين الجدد من الجامعات. وهذا موضوع ملح جداً وعلى قدر كبير من الأهمية لأن النمو الاقتصادي هدفه الأساسي هو رفع مستوى معيشة المواطنين.وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد أن الاصلاحات الاقتصادية والمالية التي تم تبنيها ومجموعة القوانين والتشريعات التي تم إصدارها مؤخراً هي شرط ضروري وأرضية لا غنى عنها مطلقاً للانطلاق نحو الوصول إلى تطوير القطاع الخاص وتمكينه من توفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة. وكل ما عدا ذلك من تحليل وأراء هو غير منهجي ولا يستقيم من زاوية التحليل الاقتصادي العلمي. فمن المعروف حسب التجارب العالمية، إن تكلفة الإصلاح الاقتصادي والمعاناة التي يسببها ترتفعان كلما تم تأخير تبني السياسات واتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع الصعوبات الاقتصادية. بكلمة أخرى، إن تطبيق السياسات التي تم ذكرها، رغم صعوبتها وآثارها السلبية في بعض الأحيان، كان لا بد منها ولولاها لكان الوضع المالي والاقتصادي أصعب بكثير حالياُ، ولكان الأفق الاقتصادي والاجتماعي أكثر صعوبة على الجميع. فعلى سبيل المثال، في حال لو استمر الوضع المالي على حاله ولم يتم تطبيق خطة التوازن المالي متوسطة المدى (2020-2024) لكان هناك حاجة إلى المزيد من الاستدانة وارتفاع الدين العام، وإلى استنزاف الموارد المالية وعجوزات في الموازنة تسببها المصروفات الكبيرة على خدمة الدين وهذه حلقة مفرغة خطرة تنتهي بأمور لا تحمد عقباها. ففي وجه تزايد الدين العام وارتفاعه بشكل هائل من نحو 1.5 مليار ريال عماني في عام 2014م إلى 20.8 مليار ريال عماني في عام 2021م كان لا بد من اتباع هذه السياسة الحكيمة باستخدام جزء من الايرادات النفطية لخفض مستوى الدين لتفادي تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. هذا التوجه الاقتصادي أدى إلى إيقاف النزف المالي وخفض الدين العام، رغم أن البعض القليل طالب باستخدام كل هذه الفوائض على مصروفات جارية من زيادة رواتب ودعم وغيرها. إن تطبيق هذه الخطة أسهم في خفض متوسط العجز المالي من نحو 12.8% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 2015-2020م إلى نحو 3.6% في عام 2021م، إضافة إلى أنه أدى إلى خفض توقعات سعر التعادل المالي لسعر برميل النفط إلى 67 دولار أميركي بحلول عام 2025م مقارنة مع 77 دولار أميركي في عام 2022م. هذا بحد ذاته يحمي الاقتصاد العماني إلى حد كبير من خضات سلبية محتملة في حال انخفاض مفاجئ في أسعار النفط.ولو استمر الوضع على ما كان عليه لكانت خدمة الدين العام وصلت حالياً إلى مستوى يساوي حجم إجمالي الدين في عام 2014م أي أنه سيكون على الدولة أن تدفع نحو 1.5 مليار ريال عماني سنويا لخدمة الدين، علماً بأن خدمة الدين تشكل جزءاً كبيراً من إجمالي المصروفات، الأمر الذي يسهم في زيادة العجز في الموازنة العامة. ولو لم يتم تطبيق خطة التوازن المالي أيضاً لكنا وصلنا إلى الوضع نفسه من استمرار للعجز المالي وارتفاع الدين العام. ومن السياسات الضرورية التي تم تبنيها أيضاً هي إعادة توجيه الدعم إلى مستحقيه لأن سياسة الدعم بشكلها السابق كانت تدعم الميسورين وليس فقط الفئات التي تستحق الدعم، وفي حين كان الدعم بالمطلق يشكل عبئاً على المالية العامة.ولذا، كان من الضرورة بمكان العمل على ترشيد الانفاق سواء من ناحية تخفيض خدمة الدين أم إعادة توجيه الدعم، خاصة وأن المصروفات الانمائية شكلت في عان 2022م أقل من 10% من إجمالي المصروفات، في حين شكلت المصروفات الجارية نحو 75%، الأمر الذي يسهم بشكل مباشر في إعاقة عملية التنمية المستدامة في ظل رؤية عمان 2040، ومن هنا تنبع أهمية خفض حصة المصروفات الجارية من إجمالي المصروفات. ومن أوجه هذا التحسن البارز هو ما قام ويقوم به جهاز الاستثمار العماني من إعادة هيكلة وتطوير عمل الشركات التابعة له والتي كان بعضها يشكل عبئاً على المالية العامة.خلاصة القول، إن ترشيد الانفاق وزيادة الايرادات، بالرغم من الآثار السلبية التي ترافقها في بعض المجالات، هي سياسة ضرورية لضمان التوازن المالي، والحقيقة الثابتة هي إن الحكومة لا يمكنها أن تنفق على المصروفات الاستثمارية والمصروفات الجارية من رواتب ودعم وغيرها من المصاريف دون أن تجبي ايرادات من رسوم وضرائب، وإلا فإن الحل الوحيد المتوفر هو الاستدانة وزيادة الدين العام. وبالتالي، من غير المنطقي من الناحية الاقتصادية المطالبة بزيادة الانفاق الجاري والاستثماري والتنموي، وفي نفس الوقت خفض الضرائب والرسوم والدين العام. وأخيراً، بالنسبة لمقولة أن السبب الوحيد لتحسن الوضع المالي في السلطنة هو ارتفاع أسعار النفط، فهذه مقولة غير صحيحة لأن ارتفاع أسعار النفط واستخدام الفوائض بالطريقة الخاطئة كان ولا شك سيزيد من التحديات والصعوبات المالية والاقتصادية والاجتماعية، على حد سواء. وهنا تكمن أهمية السياسات الاقتصادية والمالية التي تم اتباعها مؤخراً والتي ترافقت مع ارتفاع أسعار النفط واستخدمت الفوائض لضمان الاستدامة الاقتصادية، والتي أدت إلى تحسن كبير في التقييم الإئتماني للسلطنة والتي تعتبر أساساً لتشجيع الاستثمار وتساعد على تحقيق كافة أهداف رؤية عما ن 2040.

زر الذهاب إلى الأعلى