الليبرالية تأكل نفسها

- سعيد بن مسعود المعشني
انتهى الصراع بين المنظومتين الفكرية الغربية والشرقية، بمختلف منعرجاتهما القيمية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية، بانتصار الغرب مع انهيار الاتحاد السوفيتي ومراجعات الحزب الشيوعي الصيني لسياساته، وتخليه عن مبادئه الكلاسيكية، وإدخاله تطبيقات الاقتصاد الحر الرأسمالي، وهو ما أدى إلى أن أصبحت الصين “مصنع العالم”.
هذا الانتصار الغربي المفاجئ دفع المفكرين والساسة الغربيين للبحث على عجل عن عدو جديد يحفظ وحدة أهدافهم، فلم يجدوا مرشحًا أنسب من “الإسلام السياسي”، فصبت سياسات العالم بأسره نحو محوه، وكان لهم ذلك؛ إذ تم تجفيف منابع الفكر الأصولي الإسلامي خلال عقدين، وتمت تصفيته، وألقى كل أسلحته، ولم يعد يشكل خطرًا حقيقيًا، رغم تضخيمه من قِبل الآلة الدعائية الغربية التي نفخت فيه الروح ثم اغتالته سريعًا.
وقد جعل هذا الانهيار السريع والخصم الضعيف من الإسلام السياسي خصمًا غير مكافئ للجهود المبذولة والأموال المرصودة والقوى المحتشدة لمجابهته وحربه.
هذا السقوط، الذي فاجأ الجميع، وما نتج عنه من انتهاء أي منافس محتمل للغرب، وتسارع سيادة الأفكار والسياسات الليبرالية، دفع المجتمعات والنخب في الغرب إلى الاعتراض على النهج النيوليبرالي، بعد أن لمست بنفسها الآثار الاقتصادية والاجتماعية المباشرة التي يتعين عليها دفعها.
ونتيجة لذلك، انحرفت كثير من هذه المجتمعات من جديد نحو اليمين المتشدد ويمين الوسط، في محاولة منها للحفاظ على سيادتها الوطنية وبُناها الاجتماعية، أمام تداعيات السياسات التي فرضها ساستها على العالم.
لقد كانت نتائج تلك السياسات وخيمة على المواطن الغربي في عقر داره؛ إذ واجه صعوبات وتحديات حقيقية بعد اشتداد المنافسة، وانتقال مراكز الثقل الاقتصادي نحو الشرق، وتدفق ملايين المهاجرين إلى مدنه وقراه، مما ينذر بتحولات اجتماعية وسياسية يصعب احتواؤها في المستقبل.
وما نشهده اليوم، والمتوقع في الأعوام القادمة، هو اختفاء وتآكل الأطر القانونية والمعاهدات التي شكّلت حجر الأساس لهذه السياسات المنفلتة، مع إعادة ضبطها بما يتفق مع مصالح وأجندات الدول الوطنية والقومية، وهو ما يُنذر فعليًا بعودة تدريجية للنهج الاستعماري الغربي.
ومن المتوقع أن تكون أهم أدوات هذا النهج فرض “الجزية” على من يملك الثروات ولا يملك مقومات الدفاع عن نفسه.
وما هذا التناغم الذي نشهده اليوم بين روسيا بوتين وأمريكا ترمب إلا بداية الطريق نحو اتفاق القوى الفاعلة على تقسيم الكعكة حسب أحجام وقدرات القوى الكبرى.
فصبرًا آل ياسر…





