«أنت منذ الأمس»… عرض مسرحي يستكشف رحلة الإنسان في أعماق ذاته

عمّان في 29 ديسمبر 2025 /العُمانية/تؤكد مسرحية «أنت منذ الأمس»، المستلهمة من عنوان رواية «أنت منذ اليوم» (1968) للكاتب الأردني الراحل تيسير سبول، قدرة المسرح على مقاربة القضايا الراهنة وفتح فضاءات واسعة للتساؤلات الوجودية الكبرى.
ومنذ الوهلة الأولى، يضع العنوان المتلقي أمام دلالة لغوية وزمنية لافتة، إذ لا يحيل إلى الماضي بقدر ما يشير إلى لحظة فاصلة، أقرب إلى إعلان قرار أو بداية مرحلة جديدة في الحياة، تستلهم إرث سبول الأدبي بوصفه نصًا مفتوحًا على التأويل والإلهام.

ويتجلّى هذا البعد الزمني في بنية العرض الذي قُدِّم على مسرح «الشمس» في عمّان، حيث جاءت الحكاية على هيئة رحلة داخل الذات، بعيدًا عن السرد الخطي التقليدي، ليجري في كل مشهد تفكيك محطات هذه الرحلة وتجلياتها النفسية والفكرية على أكثر من مستوى.
وتتمحور فكرة المسرحية، التي أعدّها وأخرجها عبد السلام قبيلات، حول ردود فعل الإنسان عندما يُجبر على مواجهة ذاته وتسميـة الأشياء بأسمائها، واتخاذ موقف واضح مما يدور حوله. ولا تسعى المسرحية إلى تقديم قصة تقليدية ذات بداية وذروة ونهاية، بل تعتمد شذرات تجريبية تعبّر عن حالة إنسانية مثقلة بالأسئلة، تبحث عن الخلاص وسط ضغوط الواقع، وذاكرة تحاول فهم ما حدث وما قد يأتي لاحقًا.

وساهم التنوع في الإيقاع والانتقال السلس بين الحالات النفسية في منح العرض صدقية عالية، وتقريب التجربة من الجمهور الذي تفاعل مع أدق التفاصيل، سواء في النظرات، أو الوقفات، أو الجُمل المتوترة والمقتضبة، أو حتى الصمت التأملي الطويل.
وجاءت الرؤية الإخراجية قائمة على بساطة مدروسة، بعيدة عن الزحام البصري، سواء في السينوغرافيا أو الإضاءة أو الأزياء، مع توظيف ذكي للإضاءة بوصفها عنصرًا نفسيًا ودلاليًا، إذ بدت المشاهد التي ركزت على العزلة مكثفة ومعتمة، معبّرة عن التوتر الداخلي الذي تعيشه الشخصيات.
وأتاح هذا الخيار الإخراجي للنص مساحة رحبة للتنفس، ومكّن الجمهور من التركيز على جوهر العمل، مع ترك باب التأويل مفتوحًا، بما حرر العرض من قيود الزمان والمكان، ومنحه قدرة على الانفتاح الحر عليهما.
أما لغة المسرحية، فتراوحت بين النفس الشعري والعبارة اليومية البسيطة، في تداخل حافظ على ارتباط اللغة بالتجربة الحياتية دون أن تتحول إلى تزيين لغوي. وجاءت الجُمل في معظمها قصيرة، لكنها مشحونة بالدلالات، وتُقال غالبًا في لحظات الكشف والمواجهة مع الذات أو في ذروة التوتر.
وفي مجملها، سعت المسرحية إلى التعبير عن جوهر رواية تيسير سبول، التي شكّلت محطة مفصلية في الكتابة الروائية بعد الهزيمة، واشتهرت عند صدورها بأسلوبها التجريبي وحواراتها النفسية العميقة، كاشفة أزمة المثقف العربي بين الانخراط في واقع سياسي مضطرب، والانكفاء على الذات، والبحث عن معاني الحرية والصدق والعدالة في ظل تحولات كبرى تهزّ المجتمع.





