الذكرى السنوية الـ(134) لاستشهاد الشيخ المجاهد بشير بن سالم البرواني الحارثي

بقلم / ناصر بن عبدالله الريامي
مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)
نورد تاليًا موقفًا من المواقف العمانية الشجاعة في المشرق الأفريقي، التي ينبغي علينا تسليط الضوء عليها، لما تتضمنه من كثيرٍ من المعاني النبيلة التي تبرز الدور العُماني في رفع راية الإسلام، بل والجهاد في تلك البقاع البعيدة عن الوطن الأم؛ وتدحض تلك الصورة الذهنية لدى البعض، والتي تصور الرجل العماني في أفريقيا بالتاجر الذي لا يعبأ إلا بتعظيم فوائده التجارية، وبتنمية مركزه المالي.
وقبل أن أكشف عن تفصيلات الموقف، لا أجدني مبالغًا في شيء إن قلت أن صاحبه لا يقل مكانةً عن شخصية شيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، أسد الصحراء، عمر المختار الليبي. وحريٌّ بوزارة التربية والتعليم أن تضمن مثل هذه المواقف في المقررات الدراسية لطلبة المدارس؛ ليعلم عنها الجيل الصاعد.
صاحب الموقف هو، الشيخ الشهيد، بإذن الله تعالى، بشير بن سالم بن بشير البرواني الحارثي. الأخبار القليلة المُتوفّرة عن هذا الشيخ، تشيرُ إلى أن المولى عزّ وجلّ، أنعم عليه بنعمة الشجاعة والإقدام؛ وتَوّج هاتين الخصلتين بأن رفع راية الجهاد ضد المُستعمر الألماني في البر الإفريقي. فلقد قاد ضدّ الألمان حربًا ضروسًا، عُرفت في التاريخ بالحرب الألمانية.
من الأهمية بمكان أن نُسلّط بصيصًا من الضّوء على الأسباب التي أدّت إلى تفجير الموقف، لتخرجه من نطاق الاحتمال إلى نطاق الغليان؛ ثم إلى نشوب الحرب. ففي مقاطعة تانجا، التابعة لدولة تنجانيقا (تنزانيا حاليًا)، حدث انتهاك صارخ للعقيدة، وتدنيس سافر للمقدسات الإسلامية في شهر رمضان الفضيل. تمثل ذلك في دخول بعض من الألمان أحد مساجد المُقاطعة، ومعهم كلابهم، رغم علمهم ما لذلك التصرف من مساس خطير بيقينيات الاعتقاد، وتحقيرٍ بغيض لأماكن العبادةِ الطّاهرة؛ وبالتالي، اعتداء سافر لكرامة المُسلمين. لا ريب أن تصرفًا كهذا، كان كفيلًا بتفجير الموقف، وإعلان التعبئة العامة للجهاد ضد المُستعمر الألماني.
يُذكر، إن هذا الموقف، الذي كان بمثابة القطرة التي أترعت الإناء، كان قد سبقته إرهاصاتٌ أُخرى، تمثّلت في غطرسة الحاكم الألماني (Emil von Zalewski) الذي مزّقَ علم سلطان زنجبار، بعد أن أنزله من على مبنى مكتبه الحكومي، ورفع محلّه العلم الألماني. لم يقف الأمر عند هذا الحدّ فحسب، وإنما فرض العديد من الضرائب على رعايا السّلطان، في تنجانيقا والأقاليم المجاورة، كضريبة التركات وغيرها من الضرائب (أنظر: البرواني، علي محسن، الصراع والوئام في زنجبار).
هذا التصرّف الأهوج المتغطرس، لم يُؤجّج مشاعر أهالي تانجا فحسب، وإنما كافة مُسلمي الشريط الساحلي، من مُختلف الأعراق والأطياف التي استوطنت المشرق الأفريقي. لهذا، اجتمع أهل الرّأي، وقرّروا إعلان الجهاد، وخوضه تحت لواء الشيخ بشير بن سالم البرواني.
قدّم سلطان أوسامبارا (Usambara) للبرواني ستّة آلاف مُقاتل، مُدجّجين بكامل أسلحتهم وعتادهم العسكري، بعد أن وجّههم بالقتال حتى آخر رجل فيهم، وأن يأثروا الهلاك، دون العيش عبيدًا للألمان. تمكّن عددٌ يُقدّر بعشرين ألف مُقاتل، من دَحر جيوش الألمان، من جميع أراضي البر الأفريقي، باستثناء دار السلام وباجامويو. وعندما شاهد قائد الجيش الألماني أن جيوشه آخذة في التقَهقُر والتَّضَعضُع؛ أحضر قوّة إسناد، عبارة عن ضبّاط ألمان ومجموعة من المقاتلين المرتزقة من السواحليين، لقمع المسلمين الثائرين.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن رئيس الوزراء البريطاني، اللورد ساليسبوري، تعاون مع رئيس الوزراء الألماني، بيسمارك، في فرض حصارٍ بحري على طول الساحل؛ لمنع وصول الإمدادات، من السلاح والذّخيرة، إلى جيش بشير البرواني. ما كان لجيش الأخير، وبإمكاناته المحدودة نسبيًا، أن يصمُد أمام قوّة ألمانيا وحليفتها بريطانيا؛ فلاقى هزيمة نكراء، وتم القبض على القائد، بشير بن سالم البرواني الحارثي، وأُعدم شنقًا في ميدان عام، بتاريخ 15/12/1889م.








