أبوقيس … “كنزٌ” في ذاكرتنا

بقلم / احمد بن محمد الحارثي
للصمت حكمته وآلامه، وللصدمة زلّازلها وإرباكاتها التي ترفع منسوب الاضطراب والحزن وفقدان التوازن والتفكير في نوع ووقت الخبر، في لحظة بإمكانها أن تصنع من الهدوء عاصفة، ومن البهاء بُكاء.
حتى لو تعمّدتُ المراوغة والتحايل اللغوي على حجم الصدمة، وحتى لو حاولتُ تبسيط المشهد وتحويله لحالة طبيعية لكل إنسان، بأنه عابر في هذه الحياة، وبأن اليوم الذي سيغادره قادم لا محالة، إلّا أن مَن لا تزال روحه تسكن جسده، تهزّه العاطفة وتعتصره كلما غادرت روح جسد مَن يعرفه، خاصة إذا تماهت هذه المعرفة في مرحلة الطفولة وما تلاها.
أقول هذا وأنا أستعيد منزل جدّي بنخيلاته وسدرته وبئره، وبساكنيه الذين تقاسمتُ معهم صينية الغداء ومرح الطفولة وتراب المكان وزقاقه .. أستعيد “عمي سليمان” في القابل والولجة والعامرات والرباط وورزازات وبنتوت، استعيد تعلّقه بالأفلام الهندية وعلاقته المبكرة بالكاميرا والتوثيق والمغامرة في عالم الصورة المتحركة والدراما والإخراج واحتضان المواهب الشابة في الأعمال التاريخية والثقافية والفنية، وفي عشقه وجنونه ورؤيته البعيدة والجريئة، كأول مؤسس لاستوديوهات وقناة ودراما خاصة في عُمان للقطاع الخاص، تاركا لتباين الآراء، مساحة من النقاش والجدل لمنتَجه الذي أراده وضحى لأجله، وشكّل – رُغم هذا وذاك – قاعدة له بين المشتغلين في مختلف الأعمال التي أنتجتها “هالي” وقناة مجان بصبر وتحدٍ وثقة.
كان يعيش عزلته التي آمن بها، ولم يتباهى يوما بما حققه، ويتجنّب الحضور الإعلامي قدر استطاعته، بل ويتجنّب حتى “صخب” العلاقات الإجتماعية وزيفها الذي يصل حد المبالغة أحيانا…له عالمه الخاص الذي يستريح إليه ويشعره بالأمان، فإذا تعِب من الأزرار الهائلة في غرفة الإخراج، رتّب لأقرب من يرتاح لهم، رحلة بحرية في “منتجعه المتحرّك” حول خلجان مسقط، وهو عشق آخر اختاره ليكون عالمه المختلف والممتع، وإذا تعب من قناته ومن بحره أيضا، طار إلى مدنه التي تشاركه حب الصورة والإبداع الفني والتعرف على جديد صناعة الصورة وتحويلها لمادة تسعفه على إنتاج ما يراه ذا قيمة فنية تستحق المغامرة، وفي إحدى زياراته للمغرب، أصر أن آخذه إلى ورزازات ليشاهد ما يطلق عليه بهوليود الشرق، حيث تم إنتاج أفلام شهيرة مثل فيلم GLADIATOR التاريخي الذي حصد خمس جوائز أوسكار، وأتذكر في الرحلة بأن التقينا في أحد الفنادق بشخص يقوم بمساعدة المخرجين لاختيار المواقع التي تدور في مخيلاتهم، وسرد لنا “تاريخه” مع مخرجين عالميين وعرب، ومن بينهم المخرج المبدع الراحل حاتم علي الذي صور بعض مشاهد مسلسله “ملوك الطوائف ” في هذه المدينة، واصفا طريقته في العمل، وبأنه كان يصوّر مشاهده بكاميرا واحدة فقط، ويعود آخر النهار للفندق للقيام بعمليات المونتاج، وكان “عمي سليمان” يستمع إليه ويسأله في تفاصيل فنية دقيقة، وبعد مغادرتنا المدينة قال – وهو العارف بما يريد الوصول إليه – بأنه لم يقتنع كثيرا بما قاله هذا الرجل !
نحن إذا أمام شخصية مسكونة باقتحام عالم تختلط فيه روح المغامرة والاكتشاف.. شخصية تلقائية استطاعت أن تؤسس فكرة التطبيق العملي للتنفيذ، دون أن تصيبها جرثومة الإحباط أو الشعور بالتعب.
تعِب قلب أبوقيس قبل أن يتمكن من إضافة جرعة دينية لقناة مجان في شهر رمضان القادم، نعم صمت أبوقيس، تاركا لنا إرثا من التجارب اللافتة، وغصّة في القلب.





