عبدالعزيز الرواس.. رجل بقامة وطن

علي بن راشد المطاعني

ليس هناك إعلامي ممن عاصر المغفور له بإذن الله عبدالعزيز بن محمد الرواس وزير الإعلام الأسبق إلا تعلم منه الكثير عن الإعلام ونظرياته وتطبيقاته وكيفية إدارته ، و ليس هناك إعلامي ارتبط بهذه القامة الاعلامية الذي يعد مدرسة قائمة بذاتها في الإعلام إلا و أخذ منه دروسا لا تنسى في معاني الوطنية و الإعلام ، فكان عليه رحمة الله بمثابة مدرسة متحركة في مجال الإعلام وفق معناه ومغزاه الواسع والاشمل .

إذ لا يمكن أن تتحدث معه في شيء إلا واجزل وافاض لك من المعاني والمفاهيم ما يفحمك بعمق رؤيته وشمولية نظرته وحصافة منطقه وسماحته وغفرانه للاخطاء إاذا ارتكبت .

ثم هو مدرسة كذلك في الإدارة الحديثة عهد طرقها واصولها ومبادئها من مدرسة الحياة ومن صقل واستخلاص التجارب الحياتية على مراجل الحكمة عميقة الاغوار التي وهبها له رب العزة ، ومن اوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا كما نعلم وكما نؤمن ، ذلك في الكتاب مسطورا .

وبما إنه كان كذلك نجده مدافعا وحريصا على موظفيه والعاملين معه في المنابر الاعلى كمجلس الوزراء الموقر باذلا جهده ومسخرا لغته الرفيعة ومفرداته البديعة لجلب المزيد من الفوائد والامتيازات والمنافع لهم وعبر احساسه المرهف بضخامة الجهد الذي يبذلونه للارتقاء بالمهنة وتجويدها ، اذ عبر الاعلام الواعي والرشيد والمسؤول تعرف العالم على كل ملامح وسمات نهضتنا المباركة فاذا السلطنة علم في راسه نار عالميا .

و مع حكمته وحنكته وبعد نظره المعروفة عنه فقد تجلت هذه المحامد والمناقب في تعامله الشخصي بالحنو الابوي الرفيع مع كل العاملين معه من الزملاء ، لذلك تجدهم يلهجون بالشكر والثناء عليه وعلى ادبه الجم وعلى روح التفهم عالية المستوى التي يتعامل بها مع الزملاء ، وبناء عليه خصوه بعميق الحب وبعاطر أهازيج المودة ، فحب الناس لشخص ما تعني فيما تعني حب الله له ، فهنيئا له هذا العطاء الرباني النادر .

كان عليه رحمة الله يعلم تماما الفرق بين السياسة والكياسة ، ومابين الإغارة والتجارة ، ومابين الصولات والصلوات ، عليه استطاع أدارة العجلة الإعلامية العمانية على مدى عقود من الزمن باحترافية عالية وبمهارة فائقة ، وبذكاء حاد يحسد عليه ، واستطاع حقيقة اختراق كل الجدر النارية التي حاولت منع صوت الحكمة والاعتدال العماني الشهير من ان تصل لمبتغاها ، بعدها غدت عمان مؤهلة كحكم نزيه للفصل في الخصومات الدولية ، وهذا ارهاص على نجاح المد الإعلامي العماني في الوصول لكل المنابر والمحافل والمعاقل ، ثم تم بعدها تعميد عمان كحكم دولي يحل السلام متى ما اطلق صافرته ايذانا وتاكيدا على إنه في الملعب يسمع ويرى ، ويسوس المعترك كما يحب ربنا ويرضى ..

هناك الكثير من الزملاء الإعلاميين الذين تتلمذوا ثم تخرجوا ثم تمرسوا على يديه ونهلوا العلم في مدرسته الإعلامية عظيمة الشان ثم اضحوا نوابغ في منظومة الإعلام العماني واسعة الارجاء متينة العمد والاركان ، فقد كان عليه رحمة الله مدرسة لا بل كلية ، بل لاهذه ولا تلك بل كان جامعة جامعة لكل فضائل الادب الرفيع ، وسنديانة ولا اطول ولا اعظم فيها وتحت ظلالها وظلها الظليل اناخت قوافل القيم والمبادئ مطاياها لتستريح ثم لتواصل المسير الهادر والنادر وصولا لشواطئ الاستقامة التي جسدها نهجا وسلوكا وترفعا عن الصغائر وسفاسف الأمور ، فكبار القوم واعلامهم هم اهل النخوة والعزوة في القيادة والريادة ، كان عليه رحمة الله كل ذلك ، فنال الحب من الصغير والكبير من القريب والغريب معا ، كيف لا وقد سافر حسن سيرته كهدهد سليمان عليه السلام ليخبر القاصي والداني بان الرواس كان كل ذلك لا بعض ذلك .

لقد شاءت الأقدار الرخية ان اكون احد اولئك المحظوظين حقا الذين تتلمذوا على يديه وتدرب تحت ناظريه ، فعلى التاريخ ان يتوقف هنا برهة ليدون في صحائفة النورانية هذه الاحدوثة باعتبارها إقرار آمين بافضال الراحل علينا ، وقد جاء وقت البوح والاقرار بأننا ممتنون له ليجزيه الله عنا خير الجزاء ، في جنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقبن وللمحسنين

كان عبد العزيز بن محمد الرواس وزير الإعلام الأسبق، عليه رحمة الله، كان قديرًا وأمينًا في ترجمة توجهات وتوجيهات المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بحذافيرها، فكان في كل جولات جلالته السنوية، وفي كل المناسبات، يُذكِّر بالمُتحقق من المنجزات، وفي كل محفل يعدد الإنجازات التي شَهِقت على الأرض؛ فهو المُبلوِر للسياسات العامة في الدولة، وموجه للرأي العام باحترافيته التي لم تعرفها وتعهدها بعدُ نظريات الإعلام الحديث.

كان ضليعًا في حقل الإعلام، حريصًا على صون مبادئه وأدواته وأساليبه، يعرف كيف يتكلم ومتى وماذا يقول، ويعرف أيضًا متى يصمت. ثمة استراتيجية محكمة ومبهرة يتبعها الرجل على صعيد التعاطي الإعلامي العام.

كان الرواس يؤمن بمقولة (إذا أردت العالمية فعليك أن تبدأ بالمحلية)؛ لذلك كان كثير التركيز على الشأن الوطني، وتسليط الأضواء باهرةً ومبهرةً على الجهود الوطنية والمجتمعية، وإبراز الملامح العمانية وما تتمتع به البلاد من مقومات سياحية واستثمارية جاذبة.

كان كثير التركيز على تلك النقاط باعتبارها فاعلة في إطار رفد اقتصادنا الوطني بمقومات التطور والنمو المستدام.

وفي مطلق الأحوال، لا يمكن إغفال دوره الفاعل في إرساء دعائم السياسة الإعلامية أو الخط والنهج الإعلامي مع دول العالم، القائم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. لقد أرساها على الأرض واقعًا، ثم ترجمها نهجًا حرفيًّا صارمًا، فكان الإعلام العماني لا يسمح بنشر الغسيل الداخلي للدول الأخرى على شرفات منازلنا ولا على ساريات أعلامنا، ولا على هامات جبالنا، كان يقول لنا في هذا الصدد: «مارِسوا حريتكم على أنفسكم، وليس على الآخرين».

ثم نأى بالإعلام العماني وبصرامة صميمة عن المهاترات حتى في أشد حالات الأزمات ضراوةً، التي كانت تعصف بالمنطقة، وعندما كان يشتد الحر، ويَصِرُّ الجُندَب، وتبلغ القلوب الحناجر، كان الإعلام العماني يقف بعيدًا هادئًا متوازنًا ودقيقًا وحصيفًا في مفرداته وفي نقل الواقع والوقائع بحذافيرها وكما ينبغي، سواء أعجب الفرقاءَ هذا النهجُ أم لم يعجبهم. ومع مرور الأيام وتوالي السنين، أيقن العالم كله أن هذا الخط الإعلامي العماني راسخ وثابت كعاتيات جبالها، فتراجعت الأصوات التي لم تكن تعلم، بعدَ أن علمت واستوعبت ثم هدأت.

لقد مد الرواس جسورًا راسخة مع الإعلاميين والمؤسسات الصحفية، وعلى مستوى العالم، وعلى نحو رائع. ومن المواقف الإنسانية النبيلة التي أذكرها ولن أنساها، أنه في أحد الاحتفالات بالعيد الوطني بالمجمع، أُغمِيَ على الزميل الصحفي المصري محمد الحيوان، فما كان من معاليه إلا أن رافقه إلى المستشفى لتلقي العلاج، وليطمئن على صحته بنفسه.. قمة التواضع، قمة الإنسانية؛ ذاك كان الرواس الإنسان وقبل أن يكون الرواس الوزير ثم الرواس المستشار.

كان لا يبالي بشيء إزاء قول الحقيقة كما هي، بغير مواربة، بغير خوف، بغير وجل، وبغض النظر عن جدلية ما تفعله الحقيقة من آثار جانبية لدى متلقيها؛ فهو يؤمن بأنها يجب أن تقال، وأنها لا تقبل أنصاف الحلول، ولا تعترف بقدسية اللون الرمادي، حتى في بعض المؤتمرات الصحفية يرد بجرأة على بعض الأسئلة الاستفزازية الموجهة إليه عمدًا وخبثًا؛ لذلك كانت تصريحاته تتصدر منشيتات الصحف العربية والأجنبية، وهي المعبرة بجلاء عن مواقف سلطنة عمان من القضايا الإقليمية والدولية.

لقد كان خير من يمثل سلطنة عمان ويدافع عنها في كل المحافل الدولية وفي المنابر الخارجية بقوة لا يجاريه فيها أحد. لقد كان بليغًا وفصيحًا وخطيبًا مفوها ودقيقًا في التوصيف والوصف والرد المقنع على الآخرين، وهذا من فضل الله عليه.

لقد أدار بحنكة وحكمة الكثير من الملفات السياسية التي كُلِّف بها في المنطقة في الفترات الماضية، وكان مفوضًا من جلالة السلطان في الكثير من القضايا المفصلية الشائكة؛ إذ كان مفاوضًا بارعًا، ومتمرسًا وقديرًا وأستاذًا في المراوغة الإيجابية التي تخدم القضية محور الجدل. لقد كان داهية عمانية في دهاليز السياسة.

ثم إنه كان منفتحًا على المجتمع، ولا يجد غضاضةً في توجيه اللوم للآباء وأولياء الأمور في القضايا الاجتماعية ذات الشق التربوي، التي يتعين على البيت أن يضطلع فيها بمسؤوليته في تقويم وإرشاد وتوجيه الأبناء؛ ففي إحدى جلسات مجلس الشورى، سجل الرواس موقفًا سيظل في ذاكرة الوطن طويلًا، عندما قال قولته الشهيرة: «عمان كتاب مفتوح لن يُغلَق، وعلى الآباء تربية أبنائهم»، في إشارةٍ إلى تأثير المواد والأفلام والمواد الخادشة للحياء العابرة للحدود بعد أن أضحى العالم قريةً صغيرةً بفضل الوسائط الإلكترونية الحديثة.

كان – عليه رحمة الله – واضحًا في الدفاع عن الإعلام العماني عندما قال في إحدى المناسبات: «الإعلام أخطاؤه مفضوحة ومكشوفة وواضحة وعلى كل لسان، وأخطاء الآخرين تُحفَظ في الأدراج»، في إشارةٍ إلى أن العمل الإعلامي الخطأ فيه مكشوف ومفضوح.

الحديث عن الرواس ومناقبة ومحامده وتأثيراته الأبدية، كصاحب مدرسة إعلامية عمانية منفردة، لا يمكن أن يُوفِّيَه حقه في هذا المقال، ولا حتى في غيره، كما أن دوره في مسيرة نهضة سلطنة عمان، ومواكبته للتطورات، يحتاج إلى دراسات متعمقة لنستخلص منها العبر والدروس لفائدة الأجيال القادمة.

نأمل أن نرى العديد من الدراسات العلمية والأكاديمية الموثقة حول ما قدمه الرواس للوطن، ودوره الفاعل والنبيل في إرساء المعالم الإعلامية الراسخة المجسدة لنهضة عمان الحديثة.

على بن راشد المطاعني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى