حارة الشمال

بقلم: محمد بن علي المرجبي
حوالي عام 1968/م. انتقلت أسرتي إلى (مطرح)، وتحديدا (حارة الشمال) التي تقع بعد جبروه باتجاه البحر.. لا أعرف على أي أساس اختار الأهل العيش في حارة الشمال بالذات، رغم أنها ليست الأقرب إلى السوق، ولكنها الأقرب إلى سوق السمك، الذي يشكل طرفها الشرقي تقريبا.. من هنا تبدأ رحلة العيش في بيوت مستأجرة، فنحن القادمين من المناطق البعيدة حظنا ضعيف في امتلاك عقار، ولكن الظروف ستتغير عندما يحدث (الانقلاب)! هكذا كانت تسمى انطلاقة نهضة 23/يوليو/1970/م، كما كانت تسمى رسميا (الانتفاضة المباركة) وكما سمي العيد الوطني الأول بعيد الجلوس، أي جلوس السلطان على العرش.. كنت أشعر أنها حارة كبيرة رغم أنني اليوم أقدرها بما لا يتجاوز كيلومترا مربعا، وكنت أشعر أن هذا البيت كبير جدا ورحب.. أتذكر صاحبه الحاج عبد الرحمن ذا الملامح الوقورة، شديد البياض مبتسم. وعند إحدى الزوايا دكان العم صالح. هنا في مطرح يمكن أن تجد دكانا غير مرتبط بالسوق، كما توجد في بعض البيوت شبه دكاكين تلبي حاجة الأطفال على الأقل أو بعض الاحتياجات النسائية. وهنا حلويات وسكاكر لا توجد في قريتي يسمونها (نُكُل)، وهنا تباع الشكولاتة وتسمى (كوفي)، ليس بمقدور كل الأطفال شرائها. القوانين هنا أيضا صارمة غليظة، فمفهوم (دولة المؤسسات والقانون) غير وارد أصلا ولا أحد يتداوله، والحريات مكبلة حتى في أبسط الحقوق، حتى لعمل صيانة لبيتك الذي تملكه.. فمثلا أرضية الغرف في هذا البيت من تراب، وليس سهلا الحصول على رخصة للتصرف فيها!! إذا فالخطة الأخرى تمت بشراء المواد اللازمة، واستدعاء بعض المعارف من البلد ليتم فرش الأرضية بالأسمنت في جنح الظلام!! حارة الشمال اسمها مميز، ونطقها فصيح كما يظهر.. ولكن لا توجد حارة مقابلة تسمى حارة الجنوب كما هو الحال في كثير من القرى (العلاية تقابلها السفالة و العالي يقابله السافل و علوا تقابلها حدرا).. الفرق كبير جدا بين هنا وقريتي. هنا لا تحيط بنا النخيل، ولا نرى الصحراء، فبدل النخيل تحيط بنا جبال من كل ناحية، وبدل الصحراء بحر واسع المدى نرى فيه زرقة الماء، توشي صفحته قوارب الصيد، وسفن شراعية خشبية تعلوها أشرعة بيضاء إذا تحركت. ولا توجد كتلك الحشرات والكائنات وإنما على صخور الشاطئ آلاف من الشناجيب (سرطان البحر). حتى الطيور هنا مختلفة ولا مجال لصيدها، فالغراب لا يؤكل، والنورس رغم امتلائه وجماله أيضا لا يؤكل. هنا حتى شكل المباني مختلف عمارة ولونا. فهنا نوافذ زجاجية بيضاء وملونة لا يوجد مثلها في قريتي، وهنا معظم البيوت بيضاء مصبوغة بـ(نورة)، والتي على الواجهة البحرية بها بلكونات خشبية مسقوفة. كذلك بعض المفردات والكلمات هنا مختلفة. فقريبا من هنا يوجد مخبز يبيع الروتي الذي يصبح اسمه عندما يصل قريتنا – التي لا تعرف المخابز- بفله، ومخبز آخر تفوح منه رائحة خبز التنور الذي أتذوقه لأول مرة.. هنا يقولون مووه وليس هووه أو هيش أي (ماذا)، وحبابوه وليس حبابي، وكسّيحة وليست عابية، وكشرة وليس هول، وصديرية وليس فلانة، وصوغات وليس طمايع، ولبن وليست جمبة، ونلّ وليست بلولة ودرام وليس فيف. والكثير جدا من الكلمات. إنه قاموس كبير! سيجعلني مزدوج اللهجة.. هنا في مطرح، وكذلك مسقط القديمة، ليست فقط بعض المفردات هي المختلفة، وإنما تسمع لغات أخرى تماما، فهنا يمكن أن تسمع وتتعلم البلوشية واللوتيانية وأكثر من لغة من القارة الهندية كالبانيانية، وبعض اللغات التي ربما تكون متفرعة من لغات أخرى، ووارد أن تسمع السواحلية، وفي حالات نادرة الجبالية، إضافة إلى الإنجليزية.. حتى بعض الأسماء هنا لا توجد في قريتي، مثل مال الله ويدلل مالان، ومراد ومرتضى وتقي وعبد الرسول وخدا بخش وصوغية ودلال وفتحية وساجدة، وغيرها كثير.. حقا هنا البندر، وهنا العاصمة، وهنا التنوع الشديد. والأجمل أن هذا التنوع يشكل ثراء معرفيا، وسرعان ما تشعر بالاندماج الناعم وتصبح جزءا أصيلا من هذه الفسيفساء. عندما أعود إلى قريتي سيعاملونني بأنني (مطرحي)، بينما هنا سيعتبرني البعض (مال بلاد). وكأن حارة الشمال وأطرافها هي مركز الإشعاع الذي سأحلق منه إلى الفضاء الواسع. فعلى بعد خطوات من بيتنا تطل على البحر المدرسة السعيدية، التي سأصبح قريبا أحد تلاميذها (سأفرد لها مساحة قادمة). يقابل المدرسة من البوابة الغربية المجلس الثقافي البريطاني الذي سيصبح بعد سنوات طويلة (متحف بيت البرندة)، والذي تعددت استخداماته قبل ذلك. وعبر زقاق يتجه إلى السوق خلف سور اللواتيا مدرسة عبدالرضا ثم مدرسة قاسم، التي أدخلني والدي فيها ذات صيف – لم أذهب فيه للبلد – لتعلم أبجديات اللغة الإنجليزية.
* المصدر. جريدة عمان





