رحلة التغيير من حادثة الهجرة المباركة

بقلم / سالم بن عامر العيسري
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمله القلب، والحديث عن مواقفه العظيمة وتضحياته الجسيمة لا يزال يتوالى على الخواطر والأسماع ويتجدد مع توالي الجديدين لارتباط حياة المحب بحبيبه الذي جعل الله حبه شرطا ووسيلة للوصول إلى محبة الله مصداقا لقول الله جل وعلا: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿آل عمران: ٣١﴾.
وهذه تهنئتي لكل من يحبهم القلب لجلال الله في ذكرى هجرته المباركة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، الهجرة التي جعلها الله انطلاقا لرسالة الإسلام الخالدة، فسلام الله عليك يا حبيب القلوب وسلام الله على الذي كان معك في الغار مؤنسا وحارسا ومدافعا. تهنئتي إلى من أحبهم لجلال الله تأتي منسجمة مع مقتضيات المحبة التي ستبقى جذوتها متقدة لا نزال نلمس أثرها في ارتباط الأمة برسولها الكريم ونرى العاطفة الجياشة التي تفيض بها القلوب من خلال ما تعج به وسائل التواصل في التعبير عن هذه المحبة بين ما هو مختصر في عبارة واحدة وبين ما هو مسهب في السرد، يريد محبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلالها إظهار محبته، وتذكير بعضهم بعضا بفضله عليهم واستشعارهم امتنان الله عليهم ببعثته، والحديث عن هجرته المباركة هو ما يلهم المسلمين اليوم في ذكرى دخول العام الهجري الجديد، فلنقف مع هذه المحطة ولننظر إليهم وإلى تفاعلهم من خلال قول الله جل وعلا في سورة التوبة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿التوبة: ٤٠﴾.
هذه الآية المباركة وردت في معرض الحديث عن غزوة العسرة غزوة تبوك وكانت آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الغزوة التي اجتمع فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألف جندي بعد أن استنفر رسول الله المسلمين للقتال، يقول الله تعالى قبل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٣٨﴾ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٣٩﴾.
لمن ترى كان الخطاب في تلك الأحداث؟ لقد كان لخير جيل عرفته البشرية، الجيل الذي أوصل الله به رسالة الحق إلى بلاد الصين وتخوم أوروبا في قرابة ربع قرن من الزمن، الجيل الذي ضم العظماء من رجال الله من أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وخالد وسعد وغيرهم من الصناديد الأبطال، الجيل الذي لا تزال آثار خطاه شاهدة على تحقيق وعد الله بتمكينه لدين الله إذ يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿التوبة: ٣٣﴾.
يا الله هذا الجيل الفريد الذي صاغ أفرادَه رسول الله يأتيهم هذا التهديد لتثاقل أفراد منهم عن الاستجابة الفورية حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفير، كما يقول العلامة ابن عاشور: “…. فالمقصود تهديدهم بأنّهم إن تقاعدوا عن النفير، هاجمهم العدوّ في ديارهم فاستأصلوهم وأتى الله بقوم غيرهم. والأليم المؤلم ….”
هذه الآية المباركة توسطت بين آيتي التهديد اللتين وردتا قبلها، وبين ما تلاها من آيات جاء الأمر فيها فاصلا صريحا ومباشرا بالنفير للجهاد: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤١﴾ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿٤٢﴾ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿٤٣﴾.
ومن المعلوم أن سورة التوبة من أثقل سور القرآن على المنافقين، فمن أسمائها الفاضحة والكاشفة لأنها فضحتهم وكشفت نواياهم، وستظل معيارا يزن به المسلم خطاه فاحصا دخيلة نفسه لكيلا يقع فيما وقع فيه المنافقون من محادة لله ولرسوله، وليتبين من حوله ويعرف أساليبهم ليحذر مكرهم.
والسؤال الذي يخطر على البال لدى تلاوة قول الله إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ …. هو ما مدى نصري أنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد كانت حادثة الهجرة أعظم استراتيجية نفذها رسول الله ولا شك أنها كانت بأمر الله تحفه فيها عناية الله ورعايته، إنها استراتيجية التخلي عن شيء محبوب للنفس مقابل الوصول إلى ما هو أسمى وأعظم أثرا، لقد كانت فرقانا بين المعاناة والمكابدة والتضييق في الفترة المكية وبين الحرية والانطلاق والقوة والظفر والتمكين لرسالة الإسلام في الأرض، إنها استراتيجية نقل الرسالة من البيئة المنغلقة الموبوءة المعادية إلى البيئة التي فتحت ذراعيها وفتحت قبل ذلك قلوبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه الحق، فكان الظهور وكان التمكين وكانت الانطلاقة التي لن تقف مسيرتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يتحقق وعد الله بظهور دين الله على الدين كله.
ويسبق وجود الاستراتيجية وجود الغاية العظمى التي تحققها الرسالة الخالدة التي بعث بها الحبيب المصطفى للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تظافرت آيات كتاب الله على بيان هذه الغاية، ومن النماذج الرائعة في ذلك فاتحة سورة إبراهيم: الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿١﴾، فهذه هي المهمة العظيمة التي بذل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صحابته الكرام حياته كلها، مهمة إخراج البشرية من الظلمات إلى النور. ويجسد هذه الغاية قول الصحابي الجليل والبطل الفذ ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس في معركة القادسية: “إن اللهُ ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة” ولعلنا نلاحظ أن هذه الغاية ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة، فإخراج الناس من الظلمات إلى النور غاية أنزل الله القرآن لتحقيقها إلى أن تقوم الساعة.
فإذا كانت الغاية من بعثة رسول الله هي إخراج البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فما الرؤية العظيمة التي أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيقها؟ إنها تتجسد في بضع كلمات من آية من كتاب الله: وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فرؤية كل مسلم لهذا الدين أن يظهر على الدين كله.
ومن المعلوم أن مصطلح الرؤية هو في حقيقته الإجابة على التساؤلات المتعلقة بصورة ما يمكننا أن نراه على أرض الواقع كنتيجة لممارساتنا لمقتضيات الغاية التي من أجلها ندبنا أنفسنا. والرؤية القرآنية لإظهار دين الله لا شك أنها تحتاج منا إلى تضحيات جسيمة وتستحق أن نبذل في تحقيقها المهج.
لا بد من تحقيقها أولا في خاصة حياة كل منا وفي حياة من نستطيع التأثير على حياتهم أفرادا وأسرا ومجتمعات ومؤسسات، وذلك بأن نظهر مقتضيات دين الله مستعلين بها على كل ما سواه.
وإذا كانت مصطلح الاستراتيجية يتضمن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكيفية، بالخطط التي سنتبعها بالموارد التي سنحتاجها بالأهداف المرحلية التي سنرسمها، فإن المتتبع لأحداث الهجرة النبوية يمكنه استلهام دروس عظيمة من الخطط التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبة الذي خلد الله ذكره معه وخلد صحبته إياه في أحلك الظروف عند خروجه خائفا على حياته، وكلنا نعرف كيف جن جنون قريش بعدما علمت بخروجه، وكيف بذلت أعظم جوائزها لمن يأتي به حيا أو ميتا، وكلنا يعرف ما جرى لسراقة بن مالك الذي حرص على نيل الجائزة وكيف حال الله بينه وبين نبيه، وكيف بشره رسول الله بلبس سواري كسرى.
وهنا تأتي الأسئلة المحورية المرتبطة بعلاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل لحظة تمر بنا، ومن الجميل أن نتدارسها ونعي تبعتها ومقتضياتها ونحن نحتفي في هذه المحطة من سيرة سيد الخلق كلهم محطة الهجرة المباركة في ضوء الآيات التي أكرمنا الله بتلاوتها:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ……هذه حقيقة وعاها رسول الله واستمسك بها، حقيقة نصر الله لرسله، وعرف أنه وعد لا يتبدل أبدا، فكم هي الآيات التي جاءت في سور يونس وهود وغيرهما من السور المكية التي سبق تنزلها هجرته صلى الله عليه وسلم تقص على رسول الله ما يثبت به فؤاده وأفئدة المؤمنين من أمته، فتحقق النصر أمر ليس موضع شك أو سؤال، ولكن السؤال هنا عن الكيفية التي ستتحقق أثناء الهجرة، وقد بين الله ذلك وجلاه بقوله جل وعلا: فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٤٠﴾.
وسؤالك عن الاستراتيجية الشخصية التي ستعتمدها لنصرة رسول الله هو في حقيقته سؤال عن الكيفية التي ستعتمدها في اتخاذه القدوة والأسوة كقائد لم تعرف البشرية قائدا مثله في كل ميادين الحياة. بدءا من قيادته الأسرية وانتهاء بقيادته للدولة المسلمة التي وضع نظامها وواجه بها التحديات التي واجهت رسالته. هو سؤال عن تطبيقك الشامل لقول الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴿٢١﴾. هو سؤال عن رد كل القضايا صغيرها وكبيرها إلى مقتضيات طاعة أمره طاعة مطلقة دون تردد فيما أمر، والانتهاء انتهاء تاما دون وجود ضيق يحيك في النفس عن كل ما نهى عنه مستشعرا أن طاعته إنما هي في حقيقتها طاعة لله عز وجل وأن مخالفة أمره في حقيقتها مخالفة لأمر الله مصداقا لقول الله تعالى في سورة النور: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٦٣﴾.
ما هو مدى استعدادك لتقديم ما يحبه الله ورسوله على ما تحبه النفس، ويحبه الوالدان ويحبه الزوج والولد ويحبه المجتمع ويحبه غير هؤلاء من العوالم والشخصيات الاعتبارية الأخرى. وما مدى الاستعداد للتضحية من أجل إثبات ذلك في كل مواقف الحياة من المنشط والمكره فهذا وحده هو البرهان الحقيقي على صدق المحبة.
اللهم اغفر لنا تقصيرنا في اتباع نهج نبيك الكريم، وأكرمنا بصدق محبتك ومحبة رسولك الكريم ومحبة كتابك العظيم، اللهم ارزقنا اتباعه، واحشرنا في زمرته ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله يا الله يا ذا الجلال والإكرام.





