من الذاكرة

بقلم/ سعيد بن مسعود المعشني

لطالما كنت أستغرب من المتعة البصرية والحسية التي يجدها البعض في لوحات الفن التكعيبي بمدرستيه التحليلية والتركيبية.

لازمتني حالة الاندهاش والإستغراب هذه منذ أن خطت قدماي إلى الجانب المخصص لرائد هذه المدرسة وأعظم فنانيها، وأكثرهم شهرة، في متحف رينا صوفيا، الإسباني بابلو بيكاسو، في ضواحي العاصمة مدريد.ولأنني أنتمي إلى ثقافة بصرية “بدائية” أجدني دائما أرنو إلى المناظر الطبيعية وأجد فيها مصدرا للراحة والاطمئنان، خصوصا إذا غلب اللون الأخضر على الصورة. فكان أن وجدت ضالتي في متحف “البرادو” الشهير ،الذي يقع في “المثلث الذهبي للفنون” في العاصمة مدريد. حيث وقفت مشدوها أمام اللوحات الزيتية المنتشرة في ردهات المتحف الذي يحوي أكثر من ثلاثة آلاف رسم زيتي لأكثر الفنانين الاوروبيين شهرة. ليس لمعرفة مني بالجوانب الفنية للأعمال الفنية المعروضة لكل فنان، ولكن لأن معظم اللوحات تكاد تكون صورة حية للطبيعة التقطتها أكثر الكاميرات حداثة ودقة في وقتنا هذا. ناهيك عن أن أغلب اللوحات تحمل تجسيم رمزي مباشر “لجنة” عدن المستمدة سرديتها من قصص الكتاب المقدس للديانة المسيحية. وما شدني أكثر، الجمال التصويري المتخيل للرسامين “لأمنا” حواء، وهي تقف عارية، كما خلقتني في أكثر من لوحة، ترسم خطتها المجنونة لإقناع “أبانا” آدم بأكل “التفاحة اللعنة”.ولأني أطلت الوقت في هذا القسم، ولكثرة تدقيقي في تفاصيل كل لوحة، فقد استدعى ذلك أن أسرت إلي مرشدة المجموعة التي أتيت معها بضرورة الإنتهاء من الجولة والتحرك إلى المتحف الآخر المجاور مع جزمها أن الآتي سيعجبني أكثر.فما أن وصلنا إلى متحف “رينا صوفيا”، الذي يشتهر بجدارية بيكاسو المعروفة، حتى تهلل وجه المضيفة، وهي ترمقني بنظرات الفخر والاعتزاز، وتقول أن هذه الجدارية هي درة التاج في المتحف، إلى جانب مجموعة أعمال الفنان الكبير “سلفادور دالي”، واللذان معا يجعلان من المكان قبلة لمتذوقي الفن التكعيبي بمدارسه المختلفة. ومما يبعث على فخرها أكثر، أن الرجلين هما أسبانيان، على عكس تنوع رسامي المتحف الأول، الذين ينتمي جل رساميه الى بلدان أوروبية أخرى. فأحسست في داخلي أنها تقول لي هذا هو الفن الحقيقي يا “متخلف”.فما كان مني إلا أن رفعت حاجبي الأيمن، وأنا أكتم غيضي مسرعا الخطى بين اللوحات المنتشرة على الجدران لأنتهي إلى الخارج في وقت قياسي قد يكون الأسرع في تاريخ المتحف. فهذه اللوحات وأمثالها هي ما يجعلني أتجنب زيارة المتاحف، رغم أني أحب زيارة المشهور منها، حتى أجد مادة للحديث أتباهى به أمام من لم يسعفه الحظ بزيارة هذه المعالم الشهيرة، والتي تشكل أساس أية محادثة “نخبوية” مصطنعة في جلسة قد تجمع بينك وبين ما يطلق عليهم تكاذبا لقب مثقف أو مثقفة.ولقد كان لنشأتي الريفية الصرفة تأثيرا قويا في درجة إستمتاعي بأي مكان أو طقس.فأنا، مثلا، لم أجد أية متعة حتى وأنا أقف امام شاطئ ميامي الشهير. عل إعتبار أن البحر ليس مكاني المفضل، وكرهت شمس ولاية فلوريدا التي تعد ملاذا لمن يرغب في الحصول على سمرة جاذبة. أما أكثر ما هز أعماقي في “ولاية الشمس المشرقة” فكان دوي رعدها المداري المجلجل والذي يعد إنذارا للجميع للإحتماء من قوة المطر القادم.ولقد كان أن لاحظت منذ أيامي الأولى في الولايات المتحدة أن الناس هناك تتبرم جدا من المطر ويتغير مزاجهم إلى الأسوأ عند نزوله، بينما أكون أنا في قمة المتعة وإعتدال المزاج عند تساقطه بقوة، أو مع إشتداد حلكة السماء بنذر قدومه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى